النشأة - مخيم نهر البارد
التأسيس:
تم تأسيس المخيم في الأصل من قبل عصبة جمعيات الصليب الأحمر في عام 1949 لإيواء اللاجئين الفلسطينيين من منطقة بحيرة الحولة شمال فلسطين، على مساحة 198.13 دونماً، ويبلغ عدد السكان حوالي 33156 نسمة، حسب إحصاءات 2008، هاجر منهم في الأزمة الراهنة أكثر من 30 ألف لاجئ إلى مخيم البداوي ، وبدأت الأونروا بتقديم خدماتها للاجئين في عام 1950.
الإنشاء:
يروي أبو داوود قصة الهجرة: "طلعنا من صفوري، قضاء الناصرة، لواء الجليل، ووصلنا إلى بنت جبيل، وبعد شهر تم نقلنا إلى القرعون، قضينا سنة هناك، ولكن كان البرد قاسياً، فتم نقلنا إلى نهر البارد حيث جلسنا داخل شوادر". يتذكر أيضا أن اللاجئين في المخيم حينذاك رفضوا بناءه بالإسمنت "لأنهم خافوا من توطينهم في لبنان". لكنْ، عندما اهترأت الشوادر مع الوقت "أعطتنا الأونروا زينكو" في منتصف الستينات،" فصرنا نبني الجدران من حجر والسقف زينكو، وصار شوي شوي المخيم يكبر" ، فقد كان بناء مخيم البارد في الخمسينات فوضويًّا على خلاف البداوي الأكثر تنظيمًا، يقول: "إلى السبعينات، لم يكن هناك بعد مجارٍ صحية. لكن في الثمانينات، شهد المخيم توسعًا خارج حدود الأرض التي توافقت الدولة والأونروا عليها كنطاق جغرافي للمخيم" ليشمل أراضٍ تقع على أطراف المخيم عن طريق شراء عقارات وتسجيلها، وذلك إما قَبل أن يتم إقرار قانون عام 2001 الذي يمنع الفلسطينيين من التملك، أو عبر تسجيلها بأسماء أشخاص يحملون الجنسية اللبنانية، وهذه الأراضي هي ما يعرف اليوم بـ"المخيم الجديد".
يتميز البارد بنسيجه الاجتماعي ومحافظته على خصائص القرى الفلسطينية. فالأحياء مقسمة إلى حارة صفوري وسعسع و البروي والدامون والعابسية وغيرها... وهي أسماء قرى فلسطينية لجأ سكانها إلى البارد وبنوا فيه أحياءهم وحافظوا على خصائصهم القروية. إلى جانب النسيج الاجتماعي.
تميز مخيم نهر البارد، قبل دماره، ببنية اقتصادية استطاعت تشكيل سوق تجاري يمد القرى المحيطة بسلعٍ رخيصة وصناعة محلية مثل الحديد والدهان والأدوات الصحية، فتحول المخيم إلى قِبلة لتجار الجملة والمتسوقين من ذوي الدخل المحدود من اللبنانيين والفلسطينيين وغيرهم. وفي مرحلة قبل الثمانينات، كان مخيم نهر البارد محاطاً بأراضٍ زراعية كبيرة يملكها لبنانيون من القرى المجاورة، لكن مع تزايد الكثافة السكانية في المخيم، وتدهور أوضاعه المعيشية، بدأت عائلات قليلة -كان وضعها الاقتصادي قد تحسّن- تسعى لشراء قطع أرضٍ صغيرة على مقربة من المخيم لبناء منازل عليها، من دون أن تقطع صلاتها بجماعتها في المخيم. وبدأ الطلب على شراء قطع أرضٍ في المناطق المحاذية للمخيم يرتفع، ودخل استخدام الأراضي في هذه المنطقة مرحلة الانتقال العملي من الوجهة الزراعية إلى الوجهة السكنية. وجرّاء ذلك، بدأت قيمة الأراضي ترتفع، الأمر الذي شكل إغراء لأصحاب الأراضي اللبنانيين الذين أقبلوا على بيع أراضيهم لسكان المخيم الذين أرادوا شراء قطع صغيرة كي يشيدوا عليها بناء تقيم فيه العائلة الموسَّعة. وفي بعض الحالات، باع الملاك اللبنانيون أراضيهم لمتعهدين فلسطينيين عمدوا بدورهم إلى فرز الأرض إلى قطع أصغر يكون بمقدور السكان شراؤها، وفي حالات أخرى، قسم الملاك اللبنانيون أراضيهم إلى قطع صغيرة وباعوها مباشرة إلى السكان الذين يريدون تشييد مساكن عليها. وفي الحالتين جرى فرز معظم أراضي امتداد مخيم نهر البارد بطريقة غير رسمية، والمقصود بالفرز غير الرسمي هو أن فرز الأراضي لم يعمل على مراعاة أحكام التنظيم المدني المطبق في المنطقة، ولم يدوّن في السجل العقاري ، فعلى سبيل المثال، إذ قسَّمت أرض ما إلى 40 قطعة صغيرة، وبيع كل منها إلى أكثر من مالك فلسطيني واحد، فإن الأرض تظل مسجلة في السجل العقاري على أنها أرض واحدة كبيرة يملكها المالك اللبناني الأصلي. والسبب وراء فرز الأراضي بطريقة غير رسمية هو أن التنظيم المدني في المنطقة المحيطة بمخيم نهر البارد لا ينسجم مع متطلبات السكان وحاجاتهم، فأغلبية الأراضي التي تحيط بمخيم نهر البارد هي في الواقع عبارة عن مساحات كبيرة تتراوح بين 500 و 20.000م2 ، في حين أن السكان المحتملين كانوا يبحثون عن قطع صغيرة تتراوح مساحتها بين 100 و 400م2. وهكذا وجب فرز الأراضي لبيعها لمشترين أفراداً، بيد أن متوسط المساحة المسموح بها عند فرز الأراضي هو 1200م2. تقريباً لقطعة الأرض الواحدة، الأمر الذي لا يتلاءم مع الحاجة إلى قطع أرض صغيرة علاوة على ذلك، وفي حالة الأراضي التي تزيد مساحتها على 10.000م2. فإن الفرز القانوني يفرض تخصيص 25% للمنفعة العامة، أي للشوارع العريضة والمساحات العامة، كما أن عملية الفرز القانوني وتسجيل الأراضي مكلفة ويمكن أن تستغرق ستة أشهر، في حين أنه يمكن إتمام الفرز غير الرسمي في غضون شهر أو شهرين، ونتيجة ذلك فرز ما يزيد عن 95% من الأراضي حول مخيم نهر البارد بطريقة غير رسمية.
إن أغلبية الأراضي التي تم شراؤها في امتداد المخيم، وحتى تلك التي اشتريت قبل سنة 2001، لم تسجَّل رسمياً في السجل العقاري، وفي الواقع كان يحق للفلسطينيين تملك الأراضي قبل سنة 2001، لكنهم اعتُبروا أجانب وطُبَّق عليهم مقيدَّ من التملك. فقد كان يُسمح لهم بتملّك مساحة محدودة فقط والضرائب التي كانت تُفرض عليهم لتسجيل الأراضي كانت أعلى كثيراً من تلك المفروضة على اللبنانيين (كانت ضريبة التسجيل المفروضة على الأجانب 16,7%، في حين أن الضريبة على اللبنانيين هي 6%، فضلاً عن ذلك، فإن إجراءات التسجيل معقدة وكان يتعذر أحياناً إتمامها، لذلك ونظراً إلى التعقيدات والنفقات المترتبة على آلية التسجيل، والشعور العام بأن هذا التسجيل لا يُحسِّن بالضرورة أمان الأملاك، فإن 90% تقريباً من الشارين الفلسطينيين لم يسجلوا أراضيهم في السجل العقاري، وإنما سُجَّلت معظم عمليات شراء الأراضي لدى الكاتب العدل في المحلة بموجب وكالة غير قابلة للعزل. وحتى سنة 2001، فإن هذه الطريقة كانت هي الأكثر شيوعاً لتسجيل الأراضي في امتداد المخيم. وفي الواقع، اعتبر عدد كبير من السكان الفلسطينيين أن هذه الوثيقة هي إثبات كافٍ على ملكيتهم الأرض لأنها تستند إلى مستند قانوني فعلي وجرى إبرامها في مؤسسة عامة، وبناءً عليه فإنهم رأوا فيها اعترافاً صريحاً من الدولة، واعتُبروا أنها تُضفي شرعية على ملكيتهم الأراضي من دون اضطرارهم إلى الحصول على سند ملكية قانوني، وأنها تفسح المجال أمام تسجيل الأرض في مرحلة لاحقة لكن! بعد سنة 2001، أصبح التسجيل الرسمي مستحيلاً، بسبب القانون رقم 296 الذي ينص على الآتي: «لا يجوز تملّك أي حق عيني من أي نوع كان لأي شخص لا يحمل جنسية صادرة عن دولة معترف بها أو لأي شخص إذا كان التملك يتعارض مع أحكام الدستور لجهة رفض التوطين»، ونتيجة ذلك مُنعِ الفلسطينيون أيضاً من تسجيل الأرض بموجب وكالة بعد سنة 2001، واستبدل هذا الإجراء بتسجيل عقد البيع لدى «اللجنة الشعبية» في المخيم. وشكّل هذا النوع من التسجيل أكثر خيار موثوق به لتسجيل المعاملات بعد صدور قانون سنة 2001، واعتبر بالتالي الحل للمشكلة التي تسبب بها القانون التمييزي، وهكذا فإن أغلبية الملَّاك في مخيم نهر البارد، ونتيجة التسجيل غير الرسمي للأراضي، أكان ذلك بموجب وكالة أم عقد مسجل لدى اللجنة الشعبية! لا تملك سندات ملكية كاملة، وملكيتها للأراضي ليست مسجلة في السجل العقاري. وهذا الأمر يقودنا إلى طرح السؤال الآتي؟ وفي الواقع، فإن التقصي الذي أجريتُه يُظهر أن سكان امتداد المخيم لم يروا في معظم الأحيان أن ثمة ضرورة للمستندات القانونية، وإنما استمدوا أمان الحيازة من مصادر أخرى، ولا سيما عن طريق الوثائق الخطية مثل الوكالة المبرمة لدى الكاتب العدل، أو العقد المسجل لدى اللجنة الشعبية، فقد أضفت هاتان الوثيقتان شرعية على ملكية الأراضي بصورة موثوق بها، كما أن ساكنيها استمدوا أمان الحيازة من التنظيم الاجتماعي الذي يؤازر هذه الممارسات في تطوير الأراضي. وأنشئت على مر السنين منظومة تطوير الأراضي في امتداد مخيم نهر البارد على يد فاعلين محليين هم على صلة وثيقة بالمجتمع المحلي هناك، واستندت إلى حد كبير إلى الثقة، وكذلك إلى الروابط الاجتماعية وصلات القرابة. وفي الواقع، فإن السكان كانوا يعرفون أنه لا داعي إلى اللجوء إلى المحاكم لتسوية النزاعات الناشئة عن ملكية الأراضي، وإنما يمكن حلها من خلال المفاوضات المحلية. وأخيراً، فإن المتعهدين والسكان في مخيم نهر البارد، وبغض النظر عن مدى رسمية المستندات، كانوا، في معظمهم، يعتبرون أن «كل شخص دفع ثمن أرضه هو مالك، وألا أحد يستطيع انتزاع ملكيته منه»، كما يتردد قولهم، ولا يعني هذا أن جميع الملّاك في مخيم نهر البارد لم يسجلوا أراضيهم، وأنهم اعتبروا أن سندات الملكية القانونية ليست ضرورية، بل إن تحليل الأنماط القائمة يظهر أن اتباع الأصول القانونية كان مهماً في حالة الأملاك التي كانت تُعدّ ذات مردود اقتصادي، أي عندما تشترى الأرض بهدف الاستثمار، أكان ذلك لتشييد مبانٍ سكنية أو وحدات صناعية أو تجارية للتأجير أو البيع. ومن الواضح أن مواصفات الفاعلين الاجتماعيين الذين سجلوا أراضيهم بصورة قانونية كانت تختلف أيضاً عن أولئك الذين لم يفعلوا، فإمّا أنهم كانوا أكثر ثراء من المعدل، وإمّا تربطهم علاقة وثيقة بشخصية لبنانية ما، الأمر الذي أتاح لهم تسجيل الأراضي بأسمائهم .