معلومات إضافية - مخيم الدهيشة


حقائق وارقام :

  • إجمالي اللاجئين المسجلين  12045 لاجئاً .
  •  اللاجئون المسجلون كحالات عسر شديدة 301 أسرة .
  •  عدد الأسر التي تتلقى معونات غذائية طارئة 1375 أسرة .
  •  عدد التلاميذ: بنين (1300) وبنات (1400). 

مخيم الدهيشة للاجئين الفلسطينيين في بيت لحم عام 1948

آخر مرة زار جدي جبريل قريتنا زكريا الواقعة جنوب القدس المحتلة كانت في الساعة العاشرة من تاريخ يوم مجهول عام 1968 بعد فترة وجيزة من احتلال الكيان الصهيوني فلسطين كاملة وصحراء سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية.

لمحت بريقا متقدا يطل من فسحة عينيه.. استقرت نظراتي على وجهه معلقا: ماذا بك؟ كان جدي يبكي على أنقاض بيته عند باب المغارة وهو يقول "أتذكر أيام الخير..أنظروا ماذا حل بنا بعد النكبة."

ياله من يوم حزين ....

كان الجو حارا والمشاعر متقدة تخترق الأزمنة التي حالت بينه وبين القرية بذكريات الماضي لتتماهى مع الحاضر.

يومها غمرني الحزن، فانعكست آثاره على صفحة وجهي، حضرتني عبارات جدي.. السعادة أنفاسها قصيرة وتضيق ذرعا بمن لا يُقدّرها وتفرُّ دون أن نلحظ غيابها!!).

ليس جدي وحده الذي سلب بيته وأرضه.

مئات الآلاف من الوطنيين الفلسطينيين هجروا من ديارهم عام 1948 ومعهم أطفالهم ومدخرات ومقتنيات عزيزة عليهم بعد تعرضهم لإرهاب الكيان الصهيوني تارة بالقصف الصاروخي وأخرى بالسلاح الأبيض.

جدي واحد ممن نجوا من النكبة لكن وقوفه على عتبة الماضي استحوذ على ذكريات راق لها لكنها اصطدمت بحاضر كطعم السم..سجي جسده على مسطبة الغرفة.. إلى أن أطفأت عيناه الشمس..كانت تلك لحظة عودته إلى المخيم قادما من رحلة إلى القرية.


بقيت مأساة أخرى.....

خلال الرحيل القسري إبان النكبة.. كان الصغير محمود ارتمى على ذراع أمي وإلى جانبها أبي يسير بخطى حثيثة باحثا عن مكان آمن. كان وجه أخي الصغير شاحبا كأنه يعاني الدوار وحوله زحف مئات الوطنيين الفلسطينيين يسيرون على طريق ترابي متعرج بخطى ثقيلة إلى غير مكان.

وفي وسط الزحام وفي مواجهة أبي وأمي..كان أجدادي ينظرون بريب للصغير الذي فارق الحياة على طريق الآلام.

وقد تم أخذ أبي وأمي بعيدا تاركين الطفل بين الصخور بعيدا عن الآخرين الذين – مثله - حظوا بشرف الرقاد في الديار.

وفي غضون أسابيع قليلة..اختفى ضريح الطفل، فلم يحظى بشاهد قبر يكتب عليه اسمه..مثل الآلاف فوق التلال ...وفي تجاويف الأرض وتحت الأشجار...لكن اسمه يركن في الذاكرة: محمود حسن مناع – زكريا.

عند إذن بكت أمي وحين نظرت إلى والدي وجدته أيضا غارقا في الدموع صرخت بمرارة. واتكأى على بعضهما بخطوات متثاقله إلى اتجاه مجهول.

وتمضي السنين في المخيم محفوفة بالفقر المقدع والحرمان من الحرية التي انتزعت من الأب وأبنائه لسنين طوال.

كان الأب يجلس على المقعد الذي يمكن تطبيقه وإلى جانبه أمي منشغلة بطهي طعام تقليدي وأبناؤهما يجولون داخل الغرفة.

لقد أطلق سراح أبي (75 عاما) بعد أن أمضى حكما بالسجن لمدة خمس سنوات، قضاه عليه ثلاثة عسكريين إسرائيليين بتهمة مقاومة الاحتلال.

يومها غمرتنا وابناء عشيرتي ومخيمي الفرحة تختلف..لمحت دموعا تنساب على وجنتي أبي تطل على عيني فخفق قلبي وكأنني فهمت ماذا أصابه.

تلك هي المرة الأولى التي نلتقي بها جميعا تحت سقف واحد بعد مضي ثماني سنوات في المعتقلات الصهيونية ..كانت تلك دموع الفرح.

وتقترب النهاية..كان أبي على فراش الموت وقبله أمي التي حال الزمن بينها وبين زوجها وأولادها سنوات طويلة أعاقت زيارتهم في آن، حيث معتقلات الصهيونية مترامية المسافات على أرض فلسطين التاريخية.

كان أنينه يلامس مشاعري ويسري بطيئا في بدني..يخاطب نفسه قبل صحوة الموت: "ألا يحق لي قبرا في زكريا؟."

وفي تلك اللحظات استسلم لإرادة الله إلى أن صعدت روحه إلى السماء تاركا خلفه مزيج من الذكريات التي تعكس صورة مأساة حطمها الكفاح والثبات بدءا من كونه محاربا ضد العصابات الصهيونية قبل عام 1948 ومرورا باعتقاله في الصحراء لمدة ست سنوات أخرى ثم الانخراط في حرب التحرير المستمشرة حتى يومنا هذا.

(كتبت هذه القصة في الذكرى الثانية لرحيل حسن مناع الفرارجة عن عمر يناهز 81 عاما)

جودت مناع/ لندن
 كاتب صحفي ومحاضر في الإعلام
Jawdat_manna@yahoo.co.uk