كتب ومذكرات ومواد إثرائية عن المخيم - مخيم رفح
من عراق سويدان سنة 1948 إلى مخيم رفح؛ نكبة لم تنتهِ!
كان عمري عاماً واحداً حينما طردت العصابات الصهيونية عائلتي من قرية عراق سويدان سنة 1948، واليوم أُطرد من بيتي في مخيم اللجوء الموقت في مخيم رفح، أنا وأولادي وأحفادي، وأنا في عمر السابعة والسبعين.
وما زلتُ أذكرُني وأنا طفل حينما كنت أرتحلُ إلى مسافات طويلة من أجل الماء الصالحة للشرب، وكانت مساكننا وقتذاك مجرد خيام مهترئة، وتطورت مع الأعوام، واستبدلنا الخيام بالحجارة، وعلونا في البنيان لدورين وثلاثة وأربعة، وأصبحت الماء تأتي إلى باب المنزل.
واليوم، أرى حياتنا التي صنعناها بيدَينا بعد النكبة وارتقينا بها بإصرارنا يوماً وراء يوم وتجاوزنا بها بؤس الخيام، وكأنها كانت حلماً جميلاً، وأفقنا منه في حرب الإبادة على الواقع نفسه في أعوام اللجوء الأولى؛ خيام مهترئة وطوابير لا تنتهي من أجل أي شيء: من أجل الماء، والطعام، والمساعدات.”
لا تنتهي المعارك على طابور المياه في غزة كما لا تنتهي الحكايات، وعلى هذا الطابور نتحدث في كل شيء؛ إذ جاء رجل كبير تنبئ هيأته بحكمة بليغة، وضع دلاءه في الطابور بكل هدوء، وتنحّى جانباً، فشدّني هدوؤه إليه، فحاولت أن أكسر الصمت بعدما اقتربت منه، وقلت: “إن شاء الله بتنتهي عن قريب”، ولم أكن أريد سوى أن أشرع باباً للحديث معه.
تحدثنا كثيراً، وقال أنه طوال عمره لم يكن يتخيل حرباً كهذه عوضاً عن أن يعيش حرباً مثلها، مع أنه شهد الحروب كلها، عدا حرب 1948 التي كان حينها في العام الأول من العمر.
سألته عن عمره، فقال أنه في السابع والسبعين من العمر.
- سبعة وسبعون عاماً، هذا يعني أنك مواليد البلاد يا حج؟
فأجابني بشغف كبير وكأنه ينتظر هذا السؤال منذ زمن طويل: “أجل، أنا من عراق سويدان.”
عراق سويدان هي إحدى قرى قضاء غزة، تَبْعُدُ عن مدينة غزة نحو 27 كيلومتراً، وعدد سكانها سنة 1947 كان نحو 660 فلسطينياً.
وحينما سألتهُ إن كان قد ذهب إلى عراق سويدان أم لا أجابني مبتسماً: “رحت عليها أكثر ما رحت على السوق يا بني” في إشارة منه إلى أنه زارها كثيراً.
وطفق يحدثني عن عراق سويدان وعن زياراته الكثيرة إليها، وكأنه لا يريد من الدنيا إلاّ أن تُسمع روايته وتُصدَق حكايته.
عودة بلا عودة إلى عراق سويدان!
قال: “لم تكفَّ أمي يوماً عن الحديث عن عراق سويدان، وعن المصادفة التي جمعتها بأبي، تلك المصادفة التي لن تتكرر، ولن يراها أبي بعد صدفته الأولى تلك إلاّ وهي عروسُه، وعن عرسهما وعن كل شيء كان في عراق سويدان.
وهكذا كبرتُ على حكاياتِ أمي التي لا تنتهي عن قريتها، ذلك المكان الذي كنتُ أتلهف للحظة التي أرى فيها أمي تعودُ إليه وتحققُ حلمها بالعودة الذي كانت تردده في كل مرة تحكي فيها عن قريتها.
وعشقتُ عراق سويدان كعشقِ أمي لها، وكأني عشتُ فيها دهراً! وكنتُ في نهاية كل أسبوع حينما أعودُ من عملي في الأراضي المحتلة أمرُّ بمسقط رأسي، فيفيضُ الدمعُ من عينَيَّ وأنا غارقٌ في خواءِ المكان. وفي كل مرة كنتُ أطأ فيها القرية، أعيد في خيالي بناءها كما كانت بكل تفاصيلها العالقة في ذهني من أحاديث أمي.
أرى أهل القرية وسكان القرى المجاورة، عبدس وبيت عفا، وقد جاؤوا ليحتفلوا بعرس والدي، وأذهب ببصري بعيداً وأرى في خيالي مدرسة أخي الابتدائية، التي كان يهذي في ذكرياتها وهو نائم.
وتمتد الحقول أمامي، فأرى أبي ورجال القرية وقد تجمّعوا باكراً يعدّون الإفطار استعداداً ليوم شاق سيحصدون فيه القمح والحبوب. وأفيق من خيالي على المستوطنات الإسرائيلية وقد انتشرت كسرطان فتاك في جسد عراق سويدان، فأغضب حينما أراها.
مَن هؤلاء الغرباء الذي يسكنون قرية أجدادي، ويزرعون أرض أجدادي؟
ما الذي جاء بهم إلى هنا؟
من أجلهم تعذبت أمي بقية حياتِها، وأصبحت أسيرة عراق سويدان، وكانت الذكريات جلادها في أَسْرِها هذا. طُردت أمي من عراق سويدان، لكن عراق سويدان لم تُطرد منها أبداً!
كان خوفي على أمي يمنعني من أن أقول لها أني ‘كنتُ في عراق سويدان يمّا‘، إذ لست أنا بالولد العاق الذي يزيد على ألم أمه ألماً آخر.
فبقيَ سرُ ذهابي إلى القرية التي عشقتها كما عشقتُ أمي حبيسَ صدري لا يبرحه برهة.”
واليوم، بعد أكثر من سبعين عاماً، يقف أبناء “أبو محمد” وأحفاده في المشهد ذاته الذي عاشته أمه، وظلتْ تتعذبُ فيهِ عمرَها كله، يُهجَّرون من بيوتهم، لكن ليس من القرية التي كانت لأجدادهم منذ آلاف السنين، بل من مخيم اللجوء الموقت!
والغرباء أنفسهم يرمقونهم من بعيد، ويكتبون تقاريرهم، ثم ينسحبون، من دون أن يحركوا ساكناً.
لقد حملَ ذكريات عراق سويدان في قلبه، وظلت تلفحه بهوائها، وكل مشاعره وأحزانه وآلامه لفقدان قريته انتقلت إلى أحفاده، لكن المفارقة المؤلمة تكمن في أن هذا الإرث من الفقد لم يعد مرتبطاً بعراق سويدان المدمرة سنة 1948 فحسب، بل أيضاً تجدد وتعمق مع المخيم الذي دُمّر سنة 2024.
فكما حُرم الجد أرضَ أجداده، ها هم الأحفاد يُحرمون ملاذَهم الموقت، وتتكرر مأساة التهجير والضياع، حاملة معها الوجع ذاته، والحسرة ذاتها، والسؤال المرير ذاته جيلاً بعد جيل؛ متى ينتهي هذا النزيف المستمر من فقدان الأوطان؟
لم تنتهِ الحكاية حين وقف أمام قريته والحسرة تذبحه، بل أيضاً استمرت حتى ذُبح حسرةً على بيته الذي بناهُ من مدخراته، أو على حد تعبيره: “داري هي شقى عمري”. إنها حكاية وطن ما زال يُسلَب كل يوم.
“عاشتْ أمي تحلم بأن ترجع إلى عراق سويدان، واليوم يحلم حفيدها بالعودة إلى مخيم رفح.”
النكبة ليست مجرد ذكرى بعيدة، بل أيضاً واقع حي يتجدد بأشكال متفاوتة.
النكبةُ التي لم تنتهِ!
عندما نتحدث عن “النكبة التي لم تنتهِ”، فإننا نتذكر تهجير أبو محمد مرتين؛ الأولى من قريته والثانية من مخيمه:
“أتدري ما أصعب ما في النكبة يا ولدي؟ ليس أنها حدثت، بل أنها لم تنتهِ.
النكبة ليست تاريخاً مضى، بل حاضرٌ يُغتال كل يوم أمام أعيننا، ونحن عاجزون.
قلت لك إن العصابات الصهيونية كانت بعد أن تفرّغ القرية من سكانها تنسفُ منازلَهم، كي لا يتمكنوا من العودة إليها، ولتقتل أي أثر للحياة كانت هنا.
كانت منازل عراق سويدان تربو على الثمانين، فدمروها كلها، بعد أن طردوا منها جميع سكانها، ونسفوا منازلهم، وتشظت حجارتها، ورأيتُ حطامها يختبئ منكسراً حزيناً بين أشجار الكينيا.
أليس هذا ما يفعله اليوم جيش الاحتلال حينما يدخل منطقة ما في غزة؟
ألا تستحيل إلى خراب ويسحقونها سحقاً، حتى يصير المكان كعراق سويدان؟
إن ما يحدث لغزة اليوم هو نفسه ما حل بفلسطين في النكبة؛ تطهير عرقي للشعب نفسه، بل للأفراد نفسهم ولأبنائهم وأحفادهم.
ما يحدث لغزة ليس مجرد تكرار عرضي لما حدث سنة 1948، إنما استكمال لمشروع قديم قِدَمَ الصهيونية نفسها، وهو فلسطين كأرض بلا شعب.
عدونا الآن هو عدو آبائنا وأجدادنا، وقد تجذرت كراهيتنا في أعماقهم. ورّثوها لأبنائهم، واعلم يا بُنَيّ أن بقاء فلسطيني واحد على أرض فلسطين التاريخية هو مرآة يرون فيها زوالهم، لذلك، فإن الفلسطيني محتوم عليه أن يحارَب ويُقتلَع من أرض فلسطين كلها، فلن يهنأ عدوي وعدوُك إلاّ حين تصبح فلسطين أرضاً خالصةً لليهود.
لا أرى في أحفادي حينما يقفون أمام مخيمهم، وقد غارت ملامحه، أسفل ركام المنازل المدمرة، سوى جدهم حينما كان يزور عراق سويدان. وكأنني ورّثتهم حزني وألمي وحسرتي على الوطن الذي لم يزل يُسلَب كل يوم.
وكما كذبوا عن أحداث النكبة، وقالوا إن العرب هم من تركوا قراهم بأوامر من القوات العربية، فإنهم يكذبون الآن وهم يدمّرون غزة ويدّعون أنهم يدمّرون المقاومة، وما يفعلون سوى أنهم يستكملون درب أجدادهم في تطهير فلسطين، وإن تبدلت الأجيال وتغيرت الوسائل والمبررات.”
بتجاهلها وتهميشها استمرت الجريمة
يرى أبو محمد أن استمرار جريمة التطهير العرقي وتفاقمها، كما نشهدها اليوم، لم يكن ليحدث لولا تجاهُل العالم وإنكاره المأساة الأولى التي زرعت بذور هذا الألم المستمر.
“تعايش العالم، يا بُنَيّ، مع وجود إسرائيل كأمر واقع، وكأن المأساة الإنسانية التي صاحبت قيامها ليست سوى تفصيل هامشي لا يستحق الذكر.
لقد كان الصمت على النكبة خطيئة كبرى ارتكبها العالم، فتحت الباب أمام تكرار الجريمة مراراً، وتطبيعها. حين لم تُحاسَب إسرائيل على اقتلاعها شعباً بأكمله سنة 1948، مُنِحَتِ الشرعيةَ التي كانت تحتاج إليها لتواصل مشروعها بلا رادع.
ومع كل حربٍ تُشْعِلُهَا؛ من صبرا وشاتيلا إلى جنين، ومن عدوان 2008 إلى حرب الإبادة الجماعية، فقد كانت المجازر تجد غطاءً دولياً جاهزاً يبرر ويبرئ.
غزة اليوم ليست إلاّ الحلقة الأحدث في سلسلة طويلة بدأت يوم أُغمضت العيون عن جريمة النكبة. وما كان لإسرائيل أن تدك غزة فوق رؤوس سكانها، وأن تقتل الآلاف من أطفالها لولا أنها عرفت أن أحداً لن يحاسبها. إن مشهد الإبادة الجماعية الذي نراه اليوم ما هو إلاّ النتيجة المباشرة للتخاذل الأممي المزمن، والتسامح مع الجريمة الأولى، والسكوت عن أصل الحكاية.”
وأخيراً جاء دوره في طابور المياه، فهمَّ ليملأ دلاءه، وبعدما فرغ منها قال:
“لو أن العالم حاسب إسرائيل سنة 1948، لما كانت غزة اليوم تحترق. لو أن حق العودة طُبق، والعدالة أُقيمت، لما اضطرّ جيل جديد إلى أن يموت كي يذكّر بوجوده. فالفلسطينيون لم ينسَوا، وإن نسي العالم، ولم يستسلموا، وإن خذلتهم الحكومات. إن الخطوة الأولى نحو وقف هذه الدماء هي محاسبة إسرائيل على جرائمها الماضية والحالية، وتطبيق قرارات الشرعية الدولية وعلى رأسها حق عودة اللاجئين إلى ديارهم.”