الفلسطينيون في مصر
المجتمع الممنسي: الفلسطينيون في مصر
د. عروب العابد 11 يونيو 2011
لم يُكتب سوى القليل عن الفلسطينيين في مصر. عندما لجأ بضعة آلاف من الفلسطينيين إلى مصر عقب نكبة 1948 لم تستقبلهم حكومة الملك فاروق. غير أنهم ومع صعود جمال عبد الناصر إلى سدة السلطة أصبحوا يُعامَلون معاملةَ المواطن المصري، ويتمتعون بحقوقهم الأساسية وحق العمل في القطاع العام وحقوق الملكية. وبعد عام 1978، حُرموا من تلك الحقوق التي منحتها لهم الدولة المصرية وحُرموا أيضًا من حقوقهم كلاجئين. تتناول عروب العابد في هذه الورقة الوضع القانوني للفلسطينيين في مصر، وتُعرِّج على مؤشرات التغيير الإيجابية في أعقاب الثورة المصرية. وتجادل بأن ثمة حاجةً لبذل جهود أكبر كي ترقى مصر إلى مستوى مسؤولياتها اتجاه هذا "المجتمع المَنسي" والذي لا يُعرف عدد أفراده إلا إنه قد يصل إلى 80,000.
الخلفية التاريخية
وصل ما يقرب من 15,500 فلسطيني إلى مصر في الأعوام 1948 إلى 1960. 1 وقد أقيمت المخيمات المؤقتة لاستضافة الفلسطينيين المتدفقين بسبب نكبة 1948 حيث فرّ الفلسطينيون من القتال الدائر مع المليشيات الصهيونية أو طُرٍدوا من قِبَلها إبان إقامة دولة إسرائيل. وقد لاذ البعض بمصر نظرًا لقربها أو لِما يربطهم بها من صِلات اجتماعية ومهنية. وفي أعقاب الهزيمة العسكرية في حرب فلسطين عام 1948، لم يُرحِّب الملك فاروق باللاجئين الفلسطينيين. أما المخيمات الثلاث التي أقيمت في عام 1984 فأزيلت في غضون أربع سنوات.2 كما أُعيد فلسطينيون كثيرون إلى غزة عندما كانت تحت إدارة مصر وحكمها العسكري.3 أما مَن بقي في مصر فقد احتاج إلى كفيل مصري ليُسهل له إقامته، وكان الكفيل في العادة عبارةً عن شريكٍ تجاري أو صِلةٍ عائلية.
وفي عام 1952، أُطيح بسياسات الملك فاروق بفعل انقلاب الضباط الأحرار وما انتهجه الرئيس جمال عبد الناصر من سياسات ترمي إلى الوحدة العربية. وبعد ذلك العام، دُعي الفلسطينيون المقيمون في غزة للدراسة والعمل والتملك في مصر حيث عُوملوا كمواطنين مصريين. وفي عهد عبد الناصر، كان باستطاعة أبناء الفلسطينيين المقيمين في مصر وغزة الالتحاق بالمدارس الحكومية والاستفادة من الرسوم الجامعية المُخفَّضة. وفي وقت لاحق، شملت هذه المزايا الموظفين والمقاتلين المنخرطين مع منظمة التحرير الفلسطينية والموظفين الفلسطينيين السابقين في الهيئات الحكومية المصرية. وفي أعقاب حرب حزيران/يونيو عام 1967 وبعد احتلال إسرائيل لِما تبقى من فلسطين، ومرتفعات الجولان السورية، وشبه جزيرة سيناء، لم يستطع الفلسطينيون القاطنون في مصر العودة إلى غزة. وبحلول عام 1969، بلغ تعداد الفلسطينيين في مصر 33,000.
الخلفية التاريخية
ينتشر الفلسطينيون في المدن المصرية الكبرى (القاهرة، والشرقية، والقيلوبية، والإسكندرية، وبورسعيد، والإسماعيلية، والعريش، ورفح).4 وباستثناء القاطنين في الوايلي وعين شمس في القاهرة، وقنايات، وفاقوس، وأبو فاضل، والعريش (وهم مثال غير حصري لتجمعات الفلسطينيين المعروفة)، فإن الفلسطينيين في مصر قلَّما يعيشون في مجتمعاتٍ مقتصرة عليهم. فقد انخرطوا في معظم الحالات في المجتمع المصري واختلطوا به وتفاعلوا اجتماعيًا ومهنيًا وثقافيًا مع الشعب المصري. ومع مرور الوقت وبسبب الزواج المختلط بات من الصعب تمييز الفلسطينيين من المصريين، وهو ما فرض تحديًا على برامج التدخل الإنساني والإنمائي في سياق مساعدة المجتمع الفلسطيني.
والأهم من ذلك هو أن سياسات مصر المقيِّدة لم تسمح للفلسطينيين بإنشاء هيئاتهم المجتمعية المحلية الخاصة بهم. وبالفعل، كان للاتحادين الفلسطينيين الرئيسيين وهما اتحاد العمال الفلسطينيين واتحاد المرأة الفلسطينية دورٌ سياسي إداري وليس دورًا تمثيليًا. فوظيفة اتحاد العمال الفلسطينيين محصورةٌ في تسجيل الفلسطينيين كعمالٍ بالأجور وسائقين لسيارات الأجرة ومزارعين حتى يتسنى لهم تجديد إقامتهم. أما اتحاد المرأة الفلسطينية فيُنفذ أنشطة ثقافية وخيرية لصالح عدد محدود من الفلسطينيين في مصر.
بالرغم من أن سياسات عبد الناصر ساعدت في إدماج الفلسطينيين في مصر، فإن تجنيس الفلسطينيين لم يكن يومًا أحد الخيارات المطروحة على ضوء قرارات جامعة الدول العربية الصادرة في عام 1952 بشأن ضرورة الحفاظ على الهوية الفلسطينية واستعادة الحقوق الأساسية للإنسان الفلسطيني.5 وعلى سبيل المثال، أشارت المادة 1 من قرار جامعة الدول العربية رقم 462 على الحكومات العربية أن تؤجل جهود توطين اللاجئين الفلسطينيين ودعت الأمم المتحدة إلى تنفيذ القرارات المتعلقة بعودة هؤلاء اللاجئين إلى ديارهم وتعويضهم عمّا لحق بهم من ضررٍ وخسارةٍ في الممتلكات. وكذلك أوصت المادة 2 بأنْ تسعى البلدان المستضيفة إلى تحسين أوضاع اللاجئين المعيشية والتنسيق مع وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) من أجل إقامة مشاريع عمل للفلسطينيين.6 كما شدّدت على أن هذه المشاريع لا ينبغي أن تهدف إلى توطين الفلسطينيين بصفة دائمة بل أن تحفظ حقهم في العودة وفي الحصول على تعويضات عن خسائرهم. كما طلبت المادة 3 من الحكومات العربية أن تنسق جهودها من أجل تيسير سفر الفلسطينيين وأن تتعاون فيما بينها لاستيعاب إقامتهم المؤقتة في البلدان المضيفة.7
ضحية لسياسة الدولة
على الرغم من أن مصر لعبت دورًا مهما في ميلاد منظمة التحرير الفلسطينية، فقد كان للتوترات السياسية بين المنظمة والحكومة المصرية على مرّ السنين تداعيات سلبية على الفلسطينيين المقيمين في مصر. فبعد توقيع اتفاق كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل واغتيال وزير الثقافية المصري يوسف السباعي في نيقوسيا بتاريخ 18 شباط/فبراير 1978 على يد منظمة أبو نضال (صبري البنا) المتمردة، عانى الفلسطينيون من تراجعٍ كبير على صعيد الحقوق التي تمتعوا بها حتى ذلك التاريخ. وأثناء جنازة السباعي، أعلن رئيس الوزارء المصري آنذاك، مصطفى رياض، بأنْ "لا فلسطين بعد اليوم."8
وبين الأعوام 1978-1982، بدّلت الدولة المصرية قوانينها وأنظمتها وأمسى الفلسطينيون "أجانب" ما خلا ذوي الامتيازات كالفلسطينيين العاملين لدى منظمة التحرير الفلسطينية. كما جُرِّد الفلسطينيون من حقوقهم في الإقامة في مصر، باستثناء مَن كان متزوجًا من مواطن مصري، أو ملتحقًا بمدرسة أو جامعة ودافعًا لرسومها، أو متعاقدًا مع القطاع الخاص، أو مَن كانت لديه مصلحةٌ تجارية أو استثماراتٌ داخل البلد.9
ولم يعد التعليم الأساسي مجانيًا بالنسبة للفلسطينيين، فاضطروا إلى دفع رسومٍ للمدارس الخاصة والجامعات (بالجنيه الإسترليني).10 كما أصبح العمل في القطاع الخاص امتيازًا لمَن استطاع الحصول على تعليم جامعي ومن ثم التنافس لحجز مقعد ضمن الكوتا البالغة 10 في المئة والمخصصة للأجانب من إجمالي اليد العاملة في أي مؤسسة.11 وقد استوعب القطاع الاقتصادي غير الرسمي في مصر معظم الفلسطينيين المسجلين كمزارعين أو عاملين بالأجور عبر اتحاد العمال الفلسطينيين.12 وكعمالٍ مسجلين، يحق للفلسطينيين الإقامة في مصر.
كما كان سفر الفلسطينيين مقيَّدًا. فلِكي يضمن المسافرون أو المقيمون في الخارج من الفلسطينيين الحاملين لوثيقة السفر المصرية الدخول مرةً أخرى إلى مصر، كان يتعين عليهم إما العودة إلى مصر كلَّ ستة أشهر أو تزويد السلطات المصرية مقدمًا بما يُثبت عملهم أو التحاقهم بمؤسسة تعليمية. وفي تلك الحالات، كان يتسنى الحصول على تأشيرةٍ للعودة مدتها عام واحد.
وعلاوة على ذلك، وفي أوقات تأزم العلاقات السياسية كحرب الخليج عام 1991 والتأييد المطلق الذي أعربت عنه منظمة التحرير الفلسطينية للعراق، أقدمت الحكومة المصرية على سجن النشطاء الفلسطينيين بوتيرة مرتفعة. كما لعب الإعلام المصري دورًا في إحداث الانقسام بوصفِه الفلسطينيين بأنهم مسؤولين عن المأساة التي يُقاسُونها. كما وصفَ الإعلام الفلسطينيين "بعدم الوفاء" وهي تهمةٌ جرى التأكيد عليها عقب اغتيال السباعي وأخذت تتجدد عند كل نزاع سياسي.
وإضافةً إلى ذلك، أعطى قانون الطوارئ رقم 162 لسنة 1958 صلاحيات واسعة للسلطات لتعطيل الحريات الأساسية، بما في ذلك حظر المظاهرات والاجتماعات العامة، واعتقال المشتبه بهم واحتجازهم دون محاكمةٍ لفترات طويلة، واستخدام محاكم أمن الدولة. وبموجب قانون الطوارئ، ضُبطت أنشطة الفلسطينيين ضبطًا صارمًا، وجرت اعتقالات على نطاقٍ واسع، وفُرضت الرقابة. وحتى الاتحادات المرتبطة بمنظمة التحرير الفلسطينية والتي أُنشئت بموافقةٍ صريحة من الدولة المصرية أصبحت مطالبةً باستحصال تصريح كلما أرادت استضافة فعالية ما. وعندما كانت تُقام تلك الفعاليات، كان أفراد أمن الدولة ينتشرون عند المدخل وكانوا في معظم الأحيان يُشاهدون وهم يدونون ملاحظاتهم أثناء الاجتماع. إن هذا الجو المتسم بالاندساس الأمني قد أدى إلى اشتباه الفلسطينيين ببعضهم وإلى خشيتهم من أن يُبلّغ أحدٌ السلطات عنهم ولا سيما من الفلسطينيين أمثالهم.
وكردٍ على ذلك، أصبح فلسطينيون كُثر يتجنبون الإفصاح عن أصلهم هربًا من المضايقة. وعلى خلاف ما تعهدت به مصر من الحفاظ على الهوية الفلسطينية، فإن شعور الكثير من الفلسطينيين بأنهم مضطرون لإخفاء هويتهم أضرّ ببنية الشبكات الاجتماعية وبالحس المجتمعي داخل البلد. إن اقتران وضع الفلسطينيين القانوني القاضي بإبقائهم طي النسيان بالرقابة العدوانية التي اتبعها جهاز أمن الدولة ضَمِن عيش المجتمع الفلسطيني في خوف دائم.
لقد أصبح الزواج من مواطن مصري، ولا سيما بالنسبة للشباب الفلسطيني من رجالٍ ونساء، وسيلةً لإضفاء الشرعية على إقامتهم في مصر. وقد استمر ذلك رغم أن زواج الرجل الفلسطيني من المرأة المصرية لا يضمن له سوى حق الإقامة. وفي عام 2004، أُجريت مراجعةٌ لقانون الجنسية أصبح بموجبها يمنح الجنسية المصرية تلقائيًا لمواليد الزيجات المختلطة بين الفلسطينيين والمصريين والتي كانت ولادتهم بعد صدور القانون.
التوصيات
ثمة دلائل تشير إلى أن حكومة ما بعد مبارك قد اتخذت بعض الإجراءات لتحسين الأوضاع. ففي 2 أيار/مايو 2011، وافق وزير الداخلية الجديد منصور العيسوي على القرار رقم 1231 المُعدِّل لقانون الجنسية بحيث أصبح القانون نافذًا على جميع أبناء الأمهات المصريات (بمن فيهم أولئك المولودون قبل عام 2004).13وإذا ما طُبِّق هذا القرار بعدلٍ وإنصاف فإنه سيُسفر عن تجنيس معظم الفلسطينيين الذين تزوج آباؤهم من نساء مصريات للالتفاف على العوائق التي فرضتها الدولة منذ عام 1978 والتي كانت تحول دون تمتعهم بالإقامة القانونية. ومع ذلك، فلا تزال مصر بحاجة إلى بذل المزيد من الجهود.
إن ندرة البحوث بشأن الفلسطينيين في مصر تدعو لإجراء دراسة مسحية لتحديد العدد الفعلي للفلسطينيين المقيمين فيها ومعرفة أماكن تواجدهم وظروفهم الاجتماعية والاقتصادية.14 فلِكونِهم مشتتين ومنسيين وغالبًا ما يحيَون ظروفًا معيشية متدنية، فلا يُعرف عن احتياجاتهم ومطالبهم سوى القليل.
لقد ركزت الجهات المانحة المحلية والدولية في سياق تقديم خدماتها في مصر على خدمة المواطنيين المصريين. وعدا عن الرعاية الصحية التي تقدمها العيادات المرتبطة بالمساجد لكافة الناس، فليس بوسع الفلسطينيين الاستفادة من البرامج الإنسانية والتنموية المقامة في المناطق التي يقطنونها. إن اتخاذ خطوات نحو شمول بضعة فلسطينيين في كل منطقة جغرافية ضمن هذه الخدمات يمكن أن يُحدث تأثيرًا كبيرًا في حياة هذا المجتمع المحروم. ولا بد للهيئات التابعة للحكومة المصرية أن تنخرط بِجِد في عملية تحديد مجتمع اللاجئين الصغير هذا والذي لا يشكل سوى 0.1 في المئة من عدد السكان في مصر. وهذا من شأنه أن يتيح لمشاريع التنمية المستهدَفة والتي ستُنفَّذ مستقبلًا أن تشمل المجتمع الفلسطيني.
لقد تعهدت مصر في عام 1952، كبعض الدول العربية المضيفة، بأن تضمن الحقوق الأساسية للفلسطينيين من أجل الحفاظ على الهوية الفلسطينية وجعل التنمية أمرًا ممكنًا. غير أن الفلسطينيين القاطنين في مصر وقعوا ضحيةً للخلافات السياسية بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة المصرية. والأهم من ذلك هو أنها أفسدت الوعد بالحفاظ على الهوية الفلسطينية. ولا بد لمصر الآن أن تفي بتعهدها الأصلي وأن تكفل الحقوق الأساسية للفلسطينيين وأن تضمن حقهم في الإقامة وأن تساعدهم في إعمال حقهم بالعودة.
أما إذا ظلت مصر في حِقبة ما بعد مبارك غير مستعدةٍ لضمان الحقوق الأساسية للفلسطينيين، فإنه يتعين على المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في مصر أن توفر الحماية والمساعدة للاجئين الفلسطينيين، إذ إنهم يعيشون خارج نطاق عمليات الأونروا، ولذا لهم الحق بحكم الواقع في أن تسريَ عليهم ولايةُ المفوضية وأن يندرجوا تحت بندها الشامل الوارد في المادة 1د من اتفاقية عام 1951 المتعلقة بوضع اللاجئين.15
إن إعمال الحقوق الأساسية وحقوق اللاجئين على حدٍ سواء من شأنه أن يخلق بيئةً تسمح لمنظمات المجتمع المحلي بالازدهار، وتتيح للهيئات الإقليمية والدولية أن تقدم التمويل والدعم لهذه المنظمات وأن تركز على هذا المجتمع المَنسي وعلى المساعدة في تحديد احتياجاته وتحقيق تطلعاته.
Laurie Brand, Palestinians in the Arab World: Institution Building and the Search for State (New York: Columbia University Press, 1988): 46. ↩
معلومات إضافية
المذكرة المنقحة بشأن انطباق المادة 1د من اتفاقية عام 1951 المتعلقة بوضع اللاجئين على اللاجئين الفلسطينيين http://www.unhcr.org/refworld/pdfid/4add77d42.pdf ↩
الفلسطينيون في مصر... الحكاية وما فيها
خالد بشير
2018-11-04
بينما يتزايد الحديث عن اليهود المصريين، وتتزايد الحسرات على فقدان ذلك المجتمع، واعتبار خسارته خسارة لمناخ التعددية الذي كان يوماً ما، لا يكاد يذكر أحد مجتمعاً يحيا اليوم في الظلّ داخل مصر، دون أي أضواء مُسلَّطة أو مطالبات بحقوقهم، أو حتى احتفاء بهم باعتبارهم ممثلاً لثقافة وهوية تغني النسيج الاجتماعي المصري.
النكبة.. بداية الحكاية
بعد اشتداد القصف المدفعي للعصابات الصهيونية المسلّحة على مدينة يافا، وتشديد هذه العصابات الحصار حول المدينة، أخذت دفاعات المدينة المتواضعة بالانهيار، وأخذ جموع الأهالي يندفعون إلى شاطئ البحر، الذي تركته العصابات الصهيونية دون أن تغلقه، مكتفية بمحاصرة المدينة من جهاتها الثلاث الأخرى. استخدمت هذه الجموع القوارب، وركبت البحر متّجهة إلى الجنوب، باتجاه مصر وغزة.
توالى وصول اليافويين إلى بورسعيد، أول مدينة قابلتهم في مصر، وسارعت السلطات المصرية إلى فرض طوق حول القوارب الوافدة، وجرى نقلهم إلى مبنى الحَجْر الصحيّ، التابع لشركة قناة السويس في المدينة، وحمل اسم "المزاريطة"، فيما أخذت السلطات من وصل من الفلسطينيين عبر البرّ إلى معسكر العباسية، في القاهرة.
خط سير المراكب من يافا باتجاه بورسعيد
معسكر "القنطرة شرق".. مدينة اللاجئين
مع بداية توافد اللاجئين القادمين من فلسطين عبر الحدود المصرية، بادرت وزارة الشؤون الاجتماعية المصرية لإعداد معسكر للاجئين في منطقة العباسية في القاهرة، واستقبلت فيه الأفواج الأولى. إلا أنّ جموع المهاجرين تدفقت تدفقاً شديداً مع نهاية شهر نيسان (أبريل) وبداية أيار (مايو) عام 1948، وخصوصاً القادمين منهم عبر البحر، ما جعل الوزارة تقيم معسكراً كبيراً في منطقة "القنطرة شرق"، بحيث يضم جميع اللاجئين في مصر.
بالأعوام الأخيرة من عهد السادات، عاد الفلسطينيون "لاجئين" من جديد، فتم تجريدهم من حقوقهم بالإقامة في مصر باستثناء بعض الحالات
ثم قامت الوزارة بتشكيل لجنة باسم "اللجنة العليا لشؤون مهاجري فلسطين"، وكانت مؤلفة من عشرين عضواً يمثلون مختلف الوزارات والمصالح الرسمية المعنية، ومهمتها الإشراف على اللاجئين في المعسكر من جميع النواحي، ووضعت تحت تصرف اللجنة مبالغ معينة من المال، ثم ما لبثت جامعة الدول العربية أن ساهمت في تمويلها. وفي مطلع أيلول (سبتمبر) من نفس العام نقل اللاجئين من العباسية إلى المعسكر في "القنطرة شرق"، كما أضيفت لهم دفعة أخرى كانت في "المزاريطة".
وهكذا تجمع في معسكر القنطرة ما يقارب من اثني عشر ألف لاجئ فلسطيني. وقامت اللجنة بتوفير مختلف الخدمات للمعسكر، من تعليم، وصحة، وطرق، ونوادي، حتى سمي بـ "مدينة اللاجئين".
حي العباسية في أربعينيات القرن الماضي
وما لبثت بعض العائلات من اللاجئين، التي كانت قد خرجت من ديارها ببعض المال أو الحليّ أو المتاع، أن طلبت السماح لها بترك المعسكر والإقامة داخل البلاد، وهنا تشكّلت لجنة خاصّة للنظر في الطلبات، وسمحت بالخروج لمن توفر فيه شرطان: القدرة المالية، ووجود كفيل مقتدر من أهل البلاد يكفله. وظلّت لجنة الإفراجات تواصل صرف بطاقات الإقامة إلى أن بقي داخل المعسكر حوالي سبعة آلاف لاجئ تحت إشراف اللجنة العليا لشؤون المهاجرين.
اقرأ أيضاً: توطين اللاجئين الفلسطينيين جوهر صفقة ترامب
وبعد إلحاق قطاع غزة للإدارة المصرية عقب توقيع اتفاقية الهدنة في شباط (فبراير) عام 1949، أصدر مجلس الوزراء قراراً في أيلول (سبتمبر) 1949 بترحيل اللاجئين الفلسطينيين من معسكر القنطرة إلى قطاع غزة، وبالتحديد إلى "مخيم المغازي"، الذي تم إنشاؤه آنذاك، في حين بقي الأربعة آلاف الذين خرجوا من المعسكر في مصر، مشكّلين نواة المجتمع والجالية الفلسطينية بمصر.
عهد عبد الناصر.. لا فرق بين مصري وفلسطيني
خلال عهد الرئيس عبد الناصر (1954 - 1970)، وبالتحديد بعد حرب العام 1956، صدرت مجموعة من القوانين المتعلقة بالوجود والنشاط الفلسطيني بمصر، والتي كانت في مجملها منحازة إلى الفلسطينيين، وذلك تزاماناً مع تصاعد المد القومي والعروبي، الذي اقتضى النظر لهم كعرب لا يختلفون في شيء عن المصريين، فتمتع الفلسطينيون بمزايا المواطنة المصرية، دون التأثير على واقعهم السياسي وهويتهم الوطنية، بما في ذلك العمل في الوظائف العامة، وتملك الأراضي الزراعية، والتعليم المجاني في المدارس الحكومية والجامعات، واستمرت هذه الحقوق بعد حرب الـ 67، وفي بداية عهد الرئيس السادات.
بالإضافة للصعوبات الاقتصادية، يعاني الفلسطينيون من وثائق السفر المقيّدة، والتي لا تمنح حاملها حق الدخول لمصر مرة أخرى
كما شهدت فترة الخمسينيات والستينيات تأسيس عدد من المؤسسات الفلسطينية المدنية، كالاتحاد العام لعمال فلسطين، واتحاد طلاب فلسطين، واتحاد الكتاب الفلسطينيين، واتحاد المرأة الفلسطينية، فارتبط بها الفلسطينيون المقيمون بمصر، وكانت وسيلتهم لتنظيم أنفسهم والتعبير عن مطالبهم. وبعد عام 1964 أصبح الفلسطينيون مرتبطين أيضاً بمنظمة التحرير وأجهزتها المختلفة.
وبالرغم من أنّ سياسات عبدالناصر ساعدت في إدماج الفلسطينيين، إلا أنه قد تم تجنب خيار التجنيس الكامل، عملاً بقرارات جامعة الدول العربية الصادرة عام 1952، والتي أكدت ضرورة الحفاظ على الهوية الفلسطينية واستعادة الحقوق الأساسية للاجئ الفلسطيني، وفي مقدمتها حق العودة والحصول على تعويضات؛ فأشارت المادة الأولى من قرار جامعة الدول العربية بأنّ "على الحكومات العربية أن تؤجل جهود توطين اللاجئين الفلسطينيين"، ودعت الأمم المتحدة إلى تنفيذ القرارات المتعلقة بعودة هؤلاء اللاجئين إلى ديارهم وتعويضهم عمّا لحق بهم من ضرر وخسارة في الممتلكات. وأوصت المادة الثانية بـ "أن تسعى البلدان المستضيفة إلى تحسين أوضاع اللاجئين المعيشية والتنسيق مع وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين من أجل إقامة مشاريع عمل للفلسطينيين".
اقرأ أيضاً: هل اقتصر النضال من أجل القضية الفلسطينية على الفلسطينيين فقط؟
وفي أعقاب حرب عام 1967 وبعد احتلال ما تبقى من فلسطين، انفصل الفلسطينيون المقيمون في مصر عن فلسطين تماماً، وبحلول عام 1969، قارب تعدادهم نحو الخمسة وثلاثين ألفاً.
أمين عام جامعة الدول العربية عبدالخالق حسونة في اجتماع عام 1952
عهد السادات.. تبدّل الأحوال
كان للتجاذبات والخلافات السياسية بين منظمة التحرير والحكومة المصرية على مرّ السنين تأثيرات سلبية على الفلسطينيين في مصر. وبعد زيارة السادات للكنيست، وتوقيع اتفاق كامب ديفيد للسلام بين مصر و"إسرائيل" عام 1978، وما تلا ذلك من مقاطعة عربية وفلسطينية للجمهورية المصرية، ووقوع حادثة اغتيال وزير الثقافة المصري يوسف السباعي في قبرص في شباط (فبراير) من العام ذاته، من قبل منظمة "أبو نضال" الفلسطينية، بدأ الانقلاب المصري على حقوق الفلسطينيين التي تمتعوا بها قبل ذلك.
اقرأ أيضاً: "حماس" توافق على الرؤية المصرية للمصالحة الفلسطينية
وفي الأعوام الأخيرة من عهد السادات، عاد الفلسطينيون "لاجئين" من جديد، فتم تجريدهم من حقوقهم في الإقامة في مصر، باستثناء من كان متزوجاً بمصرية، منذ أكثر من خمسة أعوام. أو ملتحقاً بمدرسة، أو جامعة، ودافعاً لرسومها، أو متعاقداً مع القطاع الخاص، أو من كانت لديه مصلحة تجارية أو استثمارات داخل البلد.
ساهمت حادثة اغتيال السباعي بدفع السلطات المصرية للانقلاب على حقوق الفلسطينيين
وهكذا، لم يعد التعليم مجانياً للفلسطينيين، وأصبح يتوجب عليهم دفع الرسوم للمدارس الخاصّة والجامعات بالعملة الأجنبية (الجنيه الإسترليني)، ما أعاق الكثير منهم عن مواصلة التعليم، كما أصبح العمل في القطاع الخاص امتيازاً لمن يستطيع إتمام التعليم الجامعي، ومن ثم التنافس لحجز مقعد ضمن الكوتا المخصصة للأجانب من إجمالي عدد الموظفين في أي مؤسسة (البالغة 10 في المئة)، وكان الخيار الوحيد المتاح للغالبية منهم ولازال هو بالاتجاه نحو القطاع الاقتصادي غير الرسمي.
وبلغت تقديرات عدد الفلسطينيين في مصر مطلع الثمانينيات حوالي الخمسة وسبعين ألفاً. وفي عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك وبعد تفعيل حالة الطوارئ، تم تشديد القبضة على النشاط الفلسطيني في مصر، وبدأت تتسع دائرة الاعتقالات بحق النشطاء الفلسطينيين، وهو ما كان يشتد عند الأزمات السياسية، كما وقع أثناء اعتراض الفلسطينيين على حرب الخليج الثانية ومشاركة مصر ضمن قوات التحالف فيها.
الحال اليوم.. المعاناة مستمرة
واليوم يزيد عدد الفلسطينيين في مصر عن المائة ألف، وهم منتشرون في عدد من المدن المصرية الكبرى، ومختلطون في معظم الحالات بالمجتمع المصري، ولا يعيشون ضمن تجمعات منعزلة، كما أنهم تفاعلوا اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً مع المصريين، بحيث بات من الصعب تمييز الفلسطينيين من المصريين، وهو ما حدّ من إمكان وصول العمل الإغاثي والخيري لهم. وما يزيد من صعوبة الحال اختلاف حالة اللاجئين الفلسطينيين في مصر عن البلاد المستضيفة الأخرى، فهم غير مشمولين بخدمات وكالة "الأونروا"، ويعود ذلك إلى معاملة الرئيس عبدالناصر لهم معاملة المصريين -فيما عدا الحقوق السياسية- لا اللاجئين.
اقرأ أيضاً: من كان من الفلسطينيين في مواجهة الانتداب البريطاني؟
وبالإضافة إلى الصعوبات الاقتصادية، يعاني الفلسطينيون من وثائق السفرالمقيّدة، والتي لا تمنح حاملها حق الدخول إلى مصر مرة أخرى، ولِكي يضمن المسافر منهم الدخول مرة أخرى إلى مصر، يتعين عليه إما العودة إلى مصر كل ستة أشهر لتجديد الإقامة أو تزويد السلطات المصرية مقدماً بما يُثبت عمله أو التحاقه بمؤسسة تعليمية، بحيث يحصل على تأشيرة للعودة مدتها عام واحد.
يعاني الفلسطينيون في مصر من وثائق السفر المقيّدة
وهكذا، فإن الفلسطينيين في مصر، مجتمع منسيّ بحقّ، منسيون من الأطراف الفلسطينية، من المجتمع الدولي، من الهيئات الإغاثية والخيرية، وحتى من الباحثين عن إعادة إحياء مناخ التعددية والتنوّع في مصر.