الدور النضالي للمخيم - مخيم بلاطه
- دور مخيم بلاطه في الانتفاضة المباركة الأولى
انتفاضة العام 1987 لم تكن حدثا مفصولا عما سبقه من احداث، وكانت جزءا من سياق ومحطة في سياق أحداث سابقة، نقطة من مجموعة نقاط، كان هناك تراكم كبير لعمل سابق، هذا التراكم يمكننا رؤيته في ثلاثة اتجاهات:
- تراكم الوعي الوطني بشكل عام:
وهذا له عدة مركبات منها وجود الجامعات ودورها، مراكز الشباب والأندية، بعض النقابات مثل مجمع النقابات المهنية التي كان لها دورا بارزا، المحررين من الأسرى، لجان الشبيبة وحركات الشبيبة في الجامعات ومجالس اتحاد الطلبة في الجامعات بكل اتجاهاتها، البلديات الوطنية، لجنة التوجيه الوطني التي عقدت مؤتمرها التأسيسي في مجمع النقابات المهنية، كل هذه المركبات أوجدت حالة من الوعي حيث أن التناقض يولد وعيا، وهذا التناقض كان باتجاه الاحتلال الصهيوني، هذا التراكم الذي قادته هذه المؤسسات في مواجهة الاحتلال الذي كان يمسك بزمام كافة تفاصيل الحياة، وتطوره كميا ونوعيا أوجد أساسا وشكل مركبا أساسيا لاندلاع الانتفاضة.
- الجانب السياسي:
شكلت مرحلة خروج الثورة الفلسطينية من لبنان في العام 1983م والفترة التي تلتها، مرحلة سياسية مفصلية في تاريخ الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية، ليس في داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة فقط وانما أيضا في أوساط الشعب الفلسطيني في داخل لبنان، وما تبعها من تشتت وشعور الناس بأن هناك أبا بدأ يغيب عن الساحة، مجازر صبرا وشاتيلا وحرب المخيمات، مؤتمر القمة العربي الذي عقد في عمان في نوفمبر 1987م، الذي لم يعطي القضية الفلسطينية الاهتمام اللازم، حيث حل موضوع القضية الفلسطينية ثانيا بعد الحرب العراقية الإيرانية، مؤتمر القمة الإسلامي الذي عقد في دكار في السنغال وحرم وألغى الجهاد، ومؤتمر القمة الكبرى بين القطبين الاتحاد السوفياتي وأمريكا ممثلا بالرئيسين السوفياتي غورباتشوف والأمريكي ريغان في ريكيافيك، ولم يتطرق الرئيسان إلى القضية الفلسطينية، كامب ديفيد قبل ذلك، روابط القرى وارتباطها بالإدارة المدنية الصهيونية للأراضي المحتلة، الخيار الأردني، التغول الاحتلالي بعد العام 1983م من خلال حل لجنة التوجيه الوطني من قبل الاحتلال واعتبارها غير قانونية، كل ذلك ولد شعورا باليتم لدى الشعب الفلسطيني، وبرز تساؤل إلى أين نسير في ظل كل هذه المعطيات السياسية ، وإلى أين نحن ذاهبون بعد كل هذه المعاناة، أضف إلى ذلك أن مخيمات اللجوء هي مخيمات بؤس وشقاء وبالتالي فإن استشعار الخطر فيها يكون مضاعفا، ولذلك ليس غريبا ولا مستبعدا أن تنطلق شرارة الانتفاضة من مخيم جباليا فتجد لها صدى مباشرا في مخيم بلاطة أو في نابلس وما تبقى من مخيمات اللجوء في الضفة الفلسطينية المحتلة.
- الحالة الخاصة في مخيم بلاطة
لقد حدث في مخيم بلاطه حالة ثورية متقدمة جدا، وذلك من خلال جهد متراكم عنيد، كان لا يعرف اليأس ولا الإحباط، وكان يساعد في ذلك، أنه لم يكن أحدا يعرف شيئا عما يسمى بعالم المصالح الشخصية، ولم يكن معروفا ما يسمى بمفهوم شراء الذمم، النقاء الوطني كان سائدا وكان النشطاء يعملون بصدق وإخلاص وتفاني، الكل كان يعمل لإنهاء الاحتلال وتحقيق حلم العودة، واحقاق الحقوق الوطنية الكاملة للشعب الفلسطيني، فالجميع كانوا يعملون باستماته وثبات وإصرار وبلا كلل أو ملل، ولا ينتظر شيء مقابل كل ذلك، لم يكن هناك فسادا ماليا أو سياسيا، لم يكن سائدا الافساد الذي يحصل في أيامنا هذه، وكان إذا حدث فسادا جزئيا يتم محاصرته وكان يتم بحزم معالجته، ويتم فورا تعرية المفسدين.
كان هناك في تلك الفترة ثلاثة مراكز لقيادة التحركات الوطنية، وهي مركز شباب بلاطه وجامعة النجاح الوطنية ونقابة العاملين فيها "قبل تأسيس حركة الشبيبة"، وبلدية نابلس، ولدور مركز شباب بلاطه الوطني أغلقت سلطات الاحتلال العسكرية المركز لمدة أربع سنوات ابتداء من العام 1982م، "حيث كانت سلطات الاحتلال تعتقد بأنه يتم استخدام المركز كمركز للدعاية والتجنيد لحركة فتح"، وتم إعادة فتح المركز في العام 1986م ولكن عندما لاحظت سلطات الاحتلال واستخباراته بدء عودة النشاط الوطني للمركز تم إغلاقه بعد شهرين وبقي مغلقا حتى مجيء السلطة في العام 1993م.
كان مركز شباب بلاطه يشكل بؤرة لكافة أشكال العمل الوطني في المخيم فمن خلال مركز الشباب تم البناء التنظيمي في المخيم، وكان هناك حالة ثورية متواصلة وبناء متراكم عنيد يصل الليل بالنهار، ونتيجة لكل ذلك تم تحقيق نجاحات على مستوى تطهير المخيم من أي صورة من صور الخلل، سواء الانحراف السلوكي أو الأخلاقي، مثل تعاطي المخدرات أو التعامل مع الاحتلال، تمت محاربة كافة أشكال الظواهر الا وطنية أو اللاأخلاقية أو حتى الا دينية، وكان هناك تجاوبا من أهالي المخيم مع هذه الخطوات، وكان ذلك يتم بالإقناع أو استحضار القدوة الحسنة، وأحيانا كان يتم استخدام أسلوب الردع، (وقد اعتاد العشرات من أعضاء الشبيبة الملثمين التجوال تحت جنح الظلام في أزقة المخيم وفي بعض الأحيان وهم مسلحين بسلاسل من حديد لإثبات سيطرتهم ووجودهم وقد اضطرت عائلات بأكملها إلى مغادرة المخيم لأن أبنائها اشتبه بتعاونهم مع الشين بيت) (3) لأن المطلوب تحقيق حالة وطنية آمنة داخل المخيم، وبعد أن تحقق ذلك ظهرت دعوات لإعلان المخيم منطقة محررة، ولكن هذه الدعوات تم مراجعتها حيث تم توضيح أننا لا زلنا تحت الاحتلال، الذي يملك من أدوات البطش والقمع ما يمكن أن يحبط هكذا إعلان، وتم الاتفاق على أسلوب تطهير المخيم داخليا والانتشار خارجيا، وتم ذلك من خلال الانتشار عبر الأندية الرياضية وتقديم القدوة الحسنة في الملاعب، وتمت مساعدة شرائح أخرى على انشاء أندية رياضية، وتم التوجه أيضا نحو المدارس سواء المحيطة بالمخيم كمدرسة قدري طوقان أو الحاج معزوز المصري، أو المدارس في القرى المجاورة، وكان يتم انشاء لجان طلابية في هذه المدارس، مما أدى بالمحصلة إلى تشكيل حركة طلابية وطنية قوية مناهضة للاحتلال وتعمل على مقاومة الاحتلال وأدواته، وكذلك تم الانتشار من خلال لجان الشبيبة، حيث تم إرسال مندوبين عن الشبيبة من المخيم إلى كل القرى المحيطة في محافظة نابلس وما بعد محافظة نابلس، وتم إنشاء لجان للشبيبة في كل تلك المناطق وتم تنشيطهم وتدريبهم على العمل التطوعي والعام، فكانت بداية تأسيس لجان الشبيبة من نابلس ومخيم بلاطة وهناك وضعت الهيكلية والشعار وآليات العمل ...الخ وتم تحديد وصياغة فلسفة العمل من البداية، وتم البدء بممارسة العمل التطوعي وتنشيطه من خلال تنظيف الشوارع وخدمة المواطنين، وكان الهدف استقطاب الشباب وتفريغ طاقاتهم في أعمال وأنشطة إيجابية، بدلا من الجلوس على المقاهي وإضاعة الوقت على أمور تافهة، وتحصينهم من الانحراف والفساد وتجنيبهم من الوقوع في براثن الاحتلال، والانخراط في أعمال تحقق لهم ذاتهم، فيشعرون بنوع من الرضى الذاتي ويفيدوا مجتمعهم ويشعر المجتمع بدورهم الإيجابي، فيحققون بذلك كينونتهم الإنسانية والاجتماعية والوطنية ، وكان ذلك من بين الأدوار التي تم تبنيها وهي أن يتم ابعاد الشباب عن أي مظاهر اللا انتماء وتجنيبهم من الوقوع في براثن الاحتلال والبؤر المنحرفة .
ومن خلال الجامعة أيضا تم استكمال ما تبقى، حيث انطلقت من الجامعة تأسيس لجان الشبيبة في معظم أنحاء الضفة الغربية، ومن خلال الجامعة أيضا تم التنسيق مع حركات الشبيبة في الجامعات الأخرى، فعمليا أصبح مركز العمل الوطني كله في الضفة الغربية في جامعة النجاح الوطنية، وكان هناك مراكز أخرى في مخيم الجلزون والأمعري وقباطية والدهيشة وعنبتا في مرحلة ما حيث فرض عليها حصار وسعير وفي الخليل، وفي غزة أيضا، وكانت كل هذه المراكز مشتعلة، ومخيم جنين إلى حد ما، وكان يتم تنسيق أحيانا على ما يشبه الواي فاي في أيامنا هذه، كان التنسيق لا سلكيا، لم يكن هناك تنسيقا مباشرا بين كل هذه المراكز، وكان يتم اشعار الاحتلال أنه عندما يتم اقتحام مخيم الدهيشة، يتم تنظيم مظاهرة منددة بالاحتلال في بلاطة، وعندما يحدث حصار لعنبتا تحدث مظاهرات في نابلس وفي الجلزون، وعندما يحصل حصار في الجلزون يحدث مظاهرات في نابلس وفي بلاطه وهكذا فكان الاحتلال يشعر بأن هناك تنسيقا ولكن في حقيقة الأمر ليس دائما يكون هناك تنسيقا للفعاليات المناهضة للاحتلال، كان هناك في بعض الحيان تنسيق ولكن ليس دائما، وعندما تتجه النية لاتخاذ قرار تصعيدي ضد الاحتلال على مستوى وطني، يتم جمع ممثلي لجان الشبيبة من القرى والمدن الأخرى، ويتم الطلب بتنفيذ عمل معين، ويتم تنفيذ هذا العمل على مستوى وطني، نصرة للجنة التوجيه الوطني أو نصرة لموقف وطني تتخذه منظمة التحرير، ضد الاستيطان، ضد حالة قتل معينة، لذلك كانت حركة الشبيبة أداة تنظيمية قوية وفاعلة، حتى داخل نابلس كانت حركة الشبيبة مقسمة حسب المناطق مثلا منطقة الجبل الشمالي والبلدة القديمة ورفيديا ورأس العين، وكانت هذه اللجان أيضا بمثابة العين الساهرة، فترصد وجود خلل معين في منطقة ما، وإذا كان هناك شخصا سيئا أو تظهر ممارسة سيئة في مكان ما، فكانت لجان الشبيبة ترصد كل ذلك ويتم التواصل مع قيادة الشبيبة لاتخاذ الإجراء المناسب بشان هؤلاء الأشخاص، لذلك كان لهذه اللجان دور وطني هائل جدا.
كل هذه الفعاليات كانت قبل اندلاع انتفاضة ال 1987م، كان هناك نضوج وطني كبير، ولكن هذا النضوج في العمل الوطني بلغ ذروته واوجه في العام 1987م، مع الأخذ بعين الاعتبار المعطيات التي تم الإشارة اليها سابقا، في المجال السياسي وفي المجال التنظيمي وفي المجال الوطني، مع تراكم الوعي هذا كله، بلغ هذا البناء التنظيمي والتراكم النضالي، والخبرة في العمل الميداني والوعي، والشعور بمركزية الأرض المحتلة في العمل الوطني بشكل عام، خاصة بعد أن انتقلت منظمة التحرير إلى تونس، تولد شعور بأنه هنا في الأرض المحتلة اصبح مركز قيادة العمل الوطني، وهذه ليست مزحة بل هي مسئولية كبيرة
بناء على ما تقدم، ولطبيعة الحالة النضالية التي كانت سائدة في مخيم بلاطة، فقد كان المخيم منتفضا قبل الآخرين بطبيعة الحال، يوميا كان هناك تصعيد ضد الاحتلال، كان يتم الاشتباك مع أي دورية احتلالية تأتي للمخيم سواء كانت راجلة أو محمولة، كان يتم الاشتباك يوميا مع نقاط الحراسة التي كانت على اسطحة المنازل أو كانت مشرفة على المخيم، لقد كان يتم الاشتباك مع أي صورة من صور تحركات الاحتلال، لدرجة أنه تم اتخاذ قرار بمنع دخول دوريات الاحتلال أو سيارات استخباراته الى المخيم، لقد تم تحريم على الاحتلال فعلا الدخول إلى المخيم، لقد منعت تحركات الاحتلال داخل المخيم، لدرجة أنهم عندما كانوا يدخلوا في السابق الى المخيم ويتحرشون بالأهالي ويأخذون هوياتهم ويطلبون منهم الحضور الى مبنى العمارة للمقابلة والتحقيق معهم "المحافظة اليوم"، أصبحوا لا يستطيعون الدخول الى المخيم لفرض سلطتهم عليه، بأية وسيلة متاحة بالحجارة وبالمتاريس حرم دخول الاحتلال الى المخيم، وكان هناك حالة نضالية أرقى وكان الاحتلال يحسب لها ألف حساب، (ومن ذلك إطلاق النار على المختار الذي عينته سلطات الاحتلال مختارا للمخيم وذلك من كمين نصب له فأصيب بجروح ثم اعتزل وظيفته إثر ذلك)(4)، لذلك كان هناك حالة انتفاضيه يومية في المخيم، يوميا كانت تحدث مواجهات مع الاحتلال ويترتب على ذلك القاء القنابل المسلية للدموع على المتظاهرين، وكان يحدث إصابات، وتنقل الى المستشفيات، ويوميا يكون هناك اعتقالات، لذلك أصبحت الحالة النضالية الشغل الشاغل لحوالي 60% من سكان المخيم، وباقي السكان مؤيد لهذه الحالة النضالية وليس معارضا لها، كان الناس في المخيم يتسابقون في العطاء والتضحية، وتفتخر العائلات بأن ابنها اعتقل من قبل الاحتلال لنشاطه ضد الاحتلال، كان مركز شباب بلاطه يقدم مساعدات لحوالي 150 أسرة محتاجة، من ميزانيته المتواضعة ومن جهده المتواضع، كل موازنات المركز كانت تمول من أنشطته، وكان يتم تنظيم معارض للكتاب سنويا، وذلك حتى يتم توصيل الكتاب لكل بيت، إذ كيف سيتم ايجاد حالة وطنية بدون علم ومعرفة، وتم العمل على بيع الكتب بأسعار رخيصة لنشجع شراء الكتب، وبالتالي تم إدخال الكتاب إلى كل بيت من بيوت المخيم، تم عمل معارض للصناعات الوطنية، ومعارض للتراث والزجل وما إلى ذلك، تم تنظيم مسابقات للطلبة، وتم تنظيم برامج للفتيان في الصيف من خلال الأندية الصيفية، وكانت هذه الأندية تستقطب طلبة المدارس في المخيم، ويكون هناك نشيد وانضباط، كل ذلك كان يحدث تحت الاحتلال، كان يتم تزويد هؤلاء الطلاب بالكتب ويتم تنظيم الرحلات الترفيهية لهم إلى مدن الداخل المحتلة عام 1948م، كعكا ويافا وحيفا وبيت المقدس ويصلون في المسجد الأقصى، وكان الهدف من هذه الجولات السياحية أن يعرف هؤلاء الفتيان وطنهم، وكان من انجح هؤلاء الفتيان واللذين اصبحوا فيما بعد جيل الانتفاضة حوالي 70 فتى ممن تربوا في مدرسة الفتيان ، والتي كانت تتبع لمركز شباب بلاطه، تعلموا الدبكة والتراث والمسرح، كان يتم تنظيم مسرحيات في المركز، ويتم تنظيم أنشطة ثقافية باستمرار، وكان يتم مناقشة كتاب معين، كان أي كتاب يصدر في الضفة الغربية يتم تنظيم حلقة نقاش له في مركز شباب مخيم بلاطه.
"ولكن وللأسف، أن هؤلاء الذين اجترحوا هذه التجربة، تمت محاربتهم على مستوى الوطن، وأنا أريد أن يسجل ذلك في التاريخ، وأقولها وقلبي يتفطر من الألم" والتعبير للأستاذ عدنان ادريس.
(كان قادة "الشبيبة" في بلاطه وجميعهم تحت سن الثلاثين، بمثابة المحرك للمجلس الحركي الإقليمي لحركة فتح، والذي انضمت إليه فيما بعد سائر اللجان في قضاء نابلس وعن طريقها جرى الاتصال ب "الاتحاد العام للشبيبة" في الضفة الغربية، ومن خلال هذا الاتحاد تم بسط بنية تحتية ل"فتح" في أرجاء المناطق، وبالرغم من الحظر الرسمي الصهيوني التام للتنظيم الحزبي والسياسي لفتح في المناطق المحتلة، إلا أنه من الناحية الفعلية كانت فتح تعمل بشكل علني من خلال منظمات الشبيبة التي انتشرت في الضفة الغربية وغزة، وقد تميزت الشبيبة أيضا بمواقفها الصارمة بالنسبة للقضايا المختلف عليها في سياسة عرفات، فبعد الاتفاق الذي وقعته منظمة التحرير الفلسطينية مع الملك حسين في 11 شباط 1985م حصل "انقلاب" سريع في الزعامة العليا للحركة أدى إلى وصول معارضي الحل الوسط مع الأردن إلى مناصب قيادية وعلى رأسهم مروان البرغوثي الذي أبعدته سلطات الاحتلال خلال هذه السنة، وقد اتخذ النشاط الاجتماعي الأساسي في المخيم طابعا تطوعيا مخططا مثل رصف الشوارع وتحسين قنوات الصرف الصحي وإزالة أكوام القمامة وترميم المسجد، لكن الشباب استهوتهم بشكل رئيسي الفعاليات الرياضية وفي مركزها كان فريق كرة القدم وبين وقت وآخر دوري تنس الطاولة وكرة الطائرة وحتى سباق الميدان. وقد اتاحت ساحة كرة القدم "للشبيبة" قاعدة لتجنيد الشباب ومنها تفرعت مشاريع أخرى ذات طابع سياسي وقيمة تربوية بدءاً بوضع أكاليل الزهور في المقابر واستمراراً بإحياء ليالي سمر فولكلورية وتلاوة قصائد واناشيد وطنية وانتهاءً بإرسال طرود من الحلوى الى عائلات المعتقلين. والى جانب بلورة مراكز من مؤيدي "فتح" قامت "الشبيبة" في بلاطة بضغوط اجتماعية مثل تخفيض مبالغ المهور التي يُطالب العرسان المحليون بدفعها او بفرض منح معاينات طبية مجاناً من قبل الأطباء الأثرياء في نابلس.
هكذا أصبحت المنظمة عنواناً لكل امر من أمور الشباب الذين شعروا بإهمال شأنهم وأحسوا بالحرمان – وبالتدريج تحول الإخلاص للحركة الى مبادرات عنف، ففي البداية جرت مطاردة واضطهاد المتعاونين مع الاحتلال، بعد ذلك تم منع العمال من السفر الى أماكن عملهم في أيام الاضراب التقليدية واخيراً تم تنفيذ القرارات بشأن منع دخول جنود وشرطة الاحتلال الى داخل المخيم، وبات الرشق بالحجارة في ساعات الليل وبأيدي الفتيان ظاهرة مألوفة في بلاطة بالرغم من انه تم اختيار أماكن للمراقبة فوق السطوح على أيدي قوات الاحتلال لفترات طويلة. ولم يعد القاء الزجاجات الحارقة ظاهرة نادرة، وازدياد هذه الحوادث أدى بالفعل الى تقليل دخول دوريات قوات الاحتلال الى مخيم بلاطة على قدر الإمكان.
اذن أعلن مخيم بلاطة عن تمرد من طراز لم يكن مألوفاً حتى ذلك الحين: انطواء استفزازي امام سلطات الحكم العسكري تحيطه ميليشيا غير مسلحة من شباب "الشبيبة". وكلما استمر تردد الحكم العسكري في معالجة هذه الظاهرة ازداد غياب وجود الجيش – ونتيجة لذلك ازدادت بالطبع قوة الدفع للحكم الذاتي، وببساطة فقد أهمل الخطر الذي مثل هذا الطراز الذي قدمته بلاطة ولم يثر اهتماماً لدى المستويات العليا، و"إعادة النظام" الى بلاطة كانت ستنطوي حسب فهم الجميع على مصادمات كبرى من شأنها ان تؤدي الى وقوع إصابات جمة، ولم تكن هناك رغبة لاحد في وقوع احتمالات كهذه فتمَ ارجاء الموضوع من جلسة الى جلسة أخرى.
ولكن بعد تأخر دام طويلاً وقبل الانتفاضة بشهور اقتحم قوات الاحتلال المخيم بقوة كتيبة وأجريت تفتيشات واعتقالات في بلاطة لكسر العمود الفقري "للشبيبة"، وكانت هذه لحظة الحقيقة الحاسمة لطراز "التحرر" الذي انتهج في المخيم، حصيلة العملية الكبرى كانت بمثابة فشل تام للاحتلال الامر الذي لا يقبل التأويل، فقد تم جمع مئات الرجال في ساحة المدرسة بهدف التحقق من هويتهم والتحقيق معهم وفي نفس الوقت قام رجال حرس الحدود بحراستهم في جو حار كثيف، كذلك تم اغلاق المداخل واحيطت الأزقة بدوريات من الآليات، وقع أعضاء "الشبيبة" تحت تأثير المفاجأة امام قوات أكبر مما اعتادوا عليها في الماضي، الا انه بدأت بينهم همهمة غاضبة بعد الساعات الطويلة التي جرى فيها فرز المشبوهين وبعد ان الحق بهم مشبوهون آخرون كانت أسماؤهم مدرجة في قائمة المطلوبين وهم مكبلون بالأصفاد وعيونهم مغطاة بعصابات، على إثر ذلك استصرخ النساء استصراخ الاستغاثة وتقدمن في موكب غاضب، اما الرجال الذين شاهدوا المنظر فقد اخذوا يتحدون الجنود ويستفزونهم وفتحوا ازرار قمصانهم كاشفين عن صدورهم امام البنادق، كما تعالت من منطقة المسجد نداءات تدعو الى المقاومة بالقوة، وبدل الشتائم والسباب التي وجهت نحو الجنود شرع برشق الحجارة هنا وهناك من بعيد.
في هذه الاثناء تم استدعاء البريجادير "لواء" عمرام مصناع قائد المنطقة باللاسلكي للعودة لمعالجة ما اعتبره الضباط في الموقع، وبحق، خطراً حقيقياً قذ يضطرون من جرائه الى اصدار اوامرهم بإطلاق النار لإبعاد المحتشدين، ووجد مصناع فوراً ان جنوده يقفون على شفا حمَام من الدم فأصدر امره بوقف العملية، فتراجع الجنود، وعادوا ادراجهم.
بعد مضي أيام معدودة ألقيت قنبلة يدوية مرتجلة نحو سيارة عسكرية ولكن لم تقع إصابات.
لم يعلم سكان بلاطة بأن قوات الاحتلال قد تمكنت في هذه المرحلة من فرز واعتقال جزءا من العاملين النشيطين في "الشبيبة" و"الجبهة الشعبية" و "الشباب الإسلامي" الذين وردت أسماؤهم في قائمة المطلوبين، ولكنهم في الوقت نفسه لم يكن بمقدورهم إخفاء فرحهم بنجاحهم في إرغام قوات الاحتلال على التخلي عن العملية تحت الضغط والاكراه، فهي المرة الأولى منذ العام 1967 الذي لم تتمكن فيه قوات الاحتلال من تنفيذ مهامها في احدى المناطق الآهلة بالسكان وانتشر الخبر حول ذلك وسار بذكرها الركبان.
في السابع من شهر كانون الأول "ديسمبر" أي قبل يومين فقط من وقوع الرجة المزلزلة في قطاع غزة روج عدد من قادة "الشبيبة" في بلاطة ممن لم يتم اعتقالهم في حملة التفتيش منشورات تعلن عن نصرهم: "لقد كنا مثالا وقدوة في طول البلاد وعرضها". كما جاء في أحد المناشير: "أيها الرافضون للاحتلال! تذرعوا بالصبر! فالله مع الصابرين!" واتهم المنشور الاحتلال بمحاولة تمهيد الطريق لإعادة السكر والاجرام في المخيم، "ندعوكم للوقوف معا... فكل بيت يستطيع ان يتبرع بالغاز او الماء الفائر والأحجار، فمن سطح كل بيت يمكن ضرب الجنود الجبناء. على الجماهير ان تبدي وعيها في كل خطوة من خطواتها للحيلولة دون "اذناب الحكم العسكري" من جر المخيم الى "أوضاع يجدر تخطيها". ويضيف المنشور: "علينا ان نؤكد انه على عاتقنا وحدنا تقع مسؤولية تحديد مكان وزمان حدوث الاصطدام وليس العدو". ومن أجل اظهار الإنجازات امام الجميع فقد اوعز المنشور إلى رجال الشرطة من سكان المخيم بعدم ارتداء بزاتهم العسكرية منذ الآن في ارض المخيم وعليـهم الدخول والخروج منه بملابس مدنية فقط وذلك لإقامة الدليل على ان الشرطة هي "جهاز قمع حكومي" لا من اجل خدش كرامة رجال الشرطة أنفسهم. اننا نعلم الآن فقط ان ذلك كان الدليل على ما ستأتي به الأيام.
تبادلت ايادي الشبيبة في المناطق كراريس وكتيبات مختلفة ذات غلافات من البريستول الأصفر الفاقع – لإرشادهم على النشاطات والفعاليات السرية تحت الأرض على جميع أنواعها، وكانت المعارض والاستعراضات الفولكلورية الطرف العلني الظاهر من سطح الجليد الذي اخفى التنظيمات، في حين كانت هذه الكراريس والكتيبات تقرأ بشغف ولهفة في جلسات الخلايا المغلقة، فقد تربى جيل كامل من الشباب على تعاليم مفصلة لطرق الكفاح وجد فيها هذا الشباب ما يروي ظمأه للعمل، وفي اللحظة الحاسمة سيتاح للآلاف منهم التعبير تعبيرا حازما عن هذه التربية التي استوعبوها خلال سنوات، وقد ابادت قوات الاحتلال ما ضبطته من هذه الكراريس وعاقبت من ضبطت في حوزته من امثالها بتهمة حيازة مواد تحريضية، الا انه لم يكن في الأماكن وقف توزيع "ادب الكفاح" كما كان من العسير منع الشبيبة من استظهار الدواوين الشعرية لمعين بسيسو وعبد العزيز مناصرة عن ظهر قلب حيث أصبحا الناطقين عن روح "الصمود" شعرا.
ففي الكراس رقم واحد وردت على سبيل المثال إرشادات تفصيلية حول كيفية تنظيم مظاهرة مثل: رفع الرايات التي تحمل الشعارات في بداية المسيرة لكي يتاح للجمهور إمكانية التعود بسرعة على النداءات بإيقاعات معينة، توزيع مسبق لمهام رافعي الشعارات والمنادين بمكبرات الصوت ورجال الاسعاف الاولي وكذلك طواقم المحافظة على النظام الذين تناط بهم مهمة ابعاد الأشخاص المعروفين كعملاء للاحتلال للحيلولة دونهم ودون تقديم أسماء المشتركين في المظاهرة، كما يجب اختيار خطوط المسارات بشكل يتيح للمتظاهرين ان يجدوا بسهولة خط رجعة في حالة اصطدامهم مع الجيش قبل وصولهم الى نقطة التجمع الرئيسية في أحد الميادين المفتوحة، من جهة أخرى يحب الاحتراس من مغبة الافراط في حماس السائرين في مقدمة الطابور وعدم محاولة "التبجح" او التقدم ركضا الى الامام، ومع ذلك فبالإمكان اضرام النار بالحوانيت التي تظل مفتوحة خلال المسيرة وذلك بشرط ان المنظمين قد يئسوا من اقناع أصحابها بالحسنى بإغلاق محلاتهم والانضمام إليهم)(5).
إذن المخيم كان جاهزا لاستقبال أي شيء، أي شيء ممكن أن يخطر على بال على مستوى العمل الوطني كان مخيم بلاطه جاهزا للانخراط فيه، العمل في تلك الفترة لم يكن سهلا، كان المخيم مقسم إلى حارات، وكل حارة لها مسئول، وفي كل حارة لجان متعددة، وما أن جاءت الانتفاضة حتى بدأت كل هذه اللجان بالانخراط في فعالياتها، عندما انشأت سابقا قبل الانتفاضة اللجان الاجتماعية "والتي كانت تتبع لمركز شباب مخيم بلاطه" لتوزيع المساعدات على المحتاجين، فلما أصبحت تأتي المساعدات فيما بعد أثناء الانتفاضة من الداخل المحتل، ويتم استقبال هذه الشاحنات في منطقة دير شرف، ويتم تفريغها في مخازن شبه سرية في المخيم، ومن ثم ليلا أو نهارا يتم توزيع هذه المساعدات على المحتاجين، كانت هذه اللجان قائمة ولديها خبرة وقامت بواجبها خير قيام تحت اسم اللجان الشعبية، كان يتم وضع هذه المساعدات في أكياس ووضعها أمام منازل المحتاجين، وحتى أنه تم توزيع بعض المساعدات التي تأتي للمخيم على بعض أحياء نابلس، وفي البلدة القديمة، وكان ذلك يمثل صورة رائعة ومشرقة للتكافل الاجتماعي، لأنه بدون ذلك لا يمكن مواجهة مشروع الاحتلال التوسعي، الاحتلال كان يعيث في الأرض فسادا، وكان العمل مستمرا على مدار الساعة لمواجهة مشروعه، ففي ظل هذه الأوضاع فإن مخيم بلاطه كان متهيئا لأي شيء، المسألة فقط بحاجة إلى شرارة لكي يتطور العمل ويتم تعميمه على مستوى وطني، وفعلا فقد جاءت شرارة جباليا، ولكن كانت قد جاءت شرارات قبل حادثة المقطورة في مخيم جباليا، كانت هناك شرارة في بيرزيت، عندما استشهد شرف الطيبي وجواد سلميه وصائب أبو الذهب في الأعوام 1985-1986، وكذلك حرب المخيمات في تلك الفترة أيضا، وكان يتم مخاطبة القيادة بأن الجو مواتي لإحداث انتفاضة، يجب أن يتم اغتنام هذه الظروف المواتية وأن لا نضيع الفرصة، الاحتلال يقوم بالتغول ويريد أن يلغي مرحلة العام 1982-1984م، مرحلة العصر الذهبي في الضفة عندما كانت لجنة التوجيه الوطني والبلديات الوطنية تقود الشارع الفلسطيني في الضفة الفلسطينية المحتلة، إلا أن الاحتلال قام بإخراج حركة الشبيبة عن القانون، واعتبرها تنظيما محظورا، الاحتلال يريد ان يستعيد زمام المبادرة، لذلك يجب أن لا يتم اعطاء الاحتلال المجال لكي يستعيد زمام المبادرة، إن عملية إدارة الصراع ليست عملية سهلة، فكان لا يجب منح الاحتلال أي فرصة لاستعادة زمام المبادرة، ولكن للأسف من كانوا في موقع القيادة آنذاك كانوا يجادلون ويقولون أننا لا نقدر ولا نستطيع ذلك ولا داعي لذلك الآن وأن الوقت لم يحن بعد للانتفاض في وجه الاحتلال ولا ندري كيف تكون ردة فعل الاحتلال، ولكن مع شرارة غزة تبين أن منطقهم خطأ وأن الجو كان مهيئ للانتفاضة ضد الاحتلال، ماذا نريد مبررا أكثر من وجود احتلال يعيث في الأرض فسادا ويقتل ويدمر ويصادر ويعتقل حتى نقوم بالانتفاض ضده، أضف إلى ذلك نضوج الوعي لدى الشارع الفلسطيني للنهوض في مواجهة الاحتلال،
كانت الأمور جاهزة وجاءت الشرارة من مخيم جباليا والتي كان قد سبقها أيضا عدة حوادث، مثل عملية الطائرة الشراعية، التي نفذها مقاوم من القيادة العامة التابعة لأحمد جبريل، وكان هناك "صوت القدس" الذي تديره وتوجهه أيضا القيادة العامة وكان له أثرا في حشد الناس، وكانت تبث الأغاني الثورية حيث كان قد انقطع بث إذاعة الثورة الفلسطينية، وكان قد نشر كتاب "الضحية تعترف"، وكان هذا كتابا بسيطا، ولكن مضمونه احتوى على أمور حركت مشاعر الناس والنشطاء كالنار في الهشيم، وهنا لا بد من الإشارة إلى دور الدكتور عبد الستار القاسم المحاضر في جامعة النجاح الوطنية، حيث كتب مجموعة من الكتب كان لها الأثر في توعية الشباب، كتب كتاب عن الوحدة الوطنية، رسالة في الوحدة الوطنية، وكتب كتيب صغير عن العصيان المدني، وكتب كتاب ماذا يخسر الاحتلال أو العدو من مقاطعتنا الاقتصادية وتم توزيعه بين الناس، كل ذلك كان مع بداية الانتفاضة، وكانت هذه الكتب جاهزة وموجودة حيث وزع بعضها قبل الانتفاضة مثل الكتاب عن الوحدة الوطنية، وبعضها وزع بعد اندلاع الانتفاضة، وبمجرد أن جاءت شرارة اندلاع الانتفاضة ووزعت هذه الكتب بين الناس حتى تلقفتها الناس بشغف، وكانوا يقولون بأن هذا هو الذي نريده.
فمجرد أن حدثت شرارة مخيم جباليا، تم الاتصال بإمام المسجد، وطلب منه أن يخطب خطبة عصماء وقوية عن الحادث، وبعد الصلاة خرج المصلون وتحدث بهم أحد النشطاء، وخطب بالناس وقال بأننا كلنا يجب أن نخرج ونتظاهر للاحتجاج على مجزرة جباليا، وبالفعل كل الناس خرجت وتجاوبت مع الدعوة، وخرج الصغير قبل الكبير، وحيث أن الاحتلال موجود تم الاشتباك معه وسقط أربعة شهداء، وحتى بعد سقوط أربعة شهداء، كان هناك أناس ممن يدعون بالوجهاء الأشرار، والذين يمثلون القيادة التقليدية ، فقد حاولوا امتصاص غضب الناس، وأن هذا الموضوع عرضي وانتهى ولحد هنا فقط ويجب أن نتوقف.
عندما كانت جثامين الشهداء في مستشفى الاتحاد النسائي بنابلس، وعندما كان يجري التحضير لتشييع جنازات الشهداء، كان هناك صراع بين خطين، خط يريد استثمار هذا الحدث ليكون منطلقا لانتفاضة شاملة ضد الاحتلال، وخط آخر كان يرى دفن هذا الحدث مع دفن الشهداء، وأصحاب هذا التوجه الأخير كانوا يمسكون ببعض الأوضاع التنظيمية في البلد، قالوا بأن يذهب وفد إلى أمين طريف عميد الطائفة الدرزية والأب الروحي لها في البلاد، ونشكو له عن ممارسات الضباط والجنود الدروز بحقنا في مخيم بلاطه، وكأن المشكلة هي بين مخيم بلاطه وبين ممارسات هؤلاء الدروز، وكأنها ليست مشكلة احتلال، أليسوا هؤلاء الجنود الدروز ينفذون سياسات الاحتلال؟، وقد رفض هذا المنهج، وبالرغم من ذلك فقد توجه وفد للقاء الشيخ أمين طريف وتم اللقاء، وكان ضمن الوفد كامل الأفغاني و عطا الله شاكر ويوسف أبو حاشية وحضر هذا الاجتماع أيضا كل من سعيد كنعان وشاهر سعد والدكتور إبراهيم السلقان الذين كان يعمل على تهدئة الأمور بين الخطين وكان يعبر أيضا عن وجهة نظر من يريدون استثمار الحدث لإشعال انتفاضة في وجه الاحتلال، إذ أن الخط الأول كان يرى دفن الشهداء والعمل على تهدئة الأمور والتوقف عند هذا الحد، والخط الآخر رأى بأن يتم تشييع هؤلاء الشهداء من مستشفى الاتحاد باتجاه مخيم بلاطه.
وتم التوجه إلى مكبرات الصوت الخاصة بالأذان الموحد في مسجد الحاج نمر النابلسي، للإعلان عن تشييع جنازات الشهداء ودعوة المواطنين للمشاركة في التشييع، حيث أطلقت التكبيرات من مآذن المساجد وتمت دعوة الناس للمشاركة في تشييع الجنازات وللانتفاض في اليوم التالي، وإعلان اليوم التالي هو يوم اضراب شامل، حيث بعد الساعة الحادية عشرة صباحا يبدأ إغلاق المحلات التجارية وتنفيذ الإضراب.
بالفعل ذهب شباب الانتفاضة إلى المسجد وأعلنوا ما يريدون، وانطلقت مسيرة تشييع ضخمة للشهداء الأربعة، وفي اليوم التالي نفذ الإضراب بشكل شامل، وتم التأكد أن الإضراب بدأ الساعة الحادية عشرة صباحا، وتم تنزيل بيانات للإضراب لمدة ثلاثة أيام ابتداء من الساعة الحادية عشرة صباحا، وبعد ذلك تم تثبيت أن يبدأ الإضراب الساعة الحادية عشرة صباحا من خلال بيانات القيادة الوطنية الموحدة على مستوى الضفة الغربية وغزة، فأصبح هناك نسق نضالي واحد على مستوى الوطن.
لقد حدث صراعا مريرا مع الاحتلال في تلك الفترة، حيث كان نشطاء الانتفاضة يوميا ينزلون إلى الشوارع لإغلاق المحلات التجارية وتنفيذ الإضراب، في حين كان الاحتلال يلجأ إلى فتح المحلات التجارية بالقوة، وكان نشطاء الانتفاضة يحضرون أقفالا ويقومون بإغلاق المحلات بعد أن يفتحها الاحتلال، كان على سبيل المثال كان الاحتلال يفتح المحلات في منطقة المركز التجاري، ونشطاء الانتفاضة يقومون بإغلاق المحلات التي يكون قد فتحها في منطقة شارع حطين المجاورة، في تلك الفترة كان هناك ضابطا صهيونيا يدعى شارون ويعرفه اهل البلد يشرف على محاولات كسر الإضراب الذي يتم الدعوة له، وكان من المهم تثبيت الإضراب حتى عندما يأتي الإعلام الأجنبي ليصور، فيرى العالم التزام المواطنين بالإضراب، وعندما يتم التساؤل لماذا انتم مضربون؟ فيكون الجواب بسبب وجود الاحتلال وممارساته وتعبيرا عن رفضنا للاحتلال، وهذا يعني أن الناس غير راضين عن الاحتلال ويريدون التخلص منه، فيكون بذلك الإضراب وسيلة ناجحة لتوصيل رسالة إلى كل العالم.
كان هناك وللأسف بعض الناس لا يفهمون هذه الرسالة، فكان بعض التجار المتضررون يقفون ضد الإضراب، فكانوا حتى يسفهون الأمور، ومثل هذه الظاهرة لا بد وأن توجد في كل زمان ومكان، حيث يوجد دائما وجهتي نظر، أولى مؤيدة وأخرى معارضة، وأحيانا من غير المسموح التساهل والتراخي في مثل هذه الأمور، فلا بد من الحزم، لأنه من غير المقبول اخضاع مصير وطن لبعض الأمزجة هنا أو هناك أو لمصالح تجارية معينة، نعم البعض قد يتضرر من فعاليات الانتفاضة، ولكن مصلحة الوطن فوق كل المصالح الشخصية.
وللتأكيد فإن اول بيان للقيادة الوطنية الموحدة طبع في نابلس، وكان من بين الناس الذين حضروا اجتماع مستشفى الاتحاد ممن ذهبوا إلى رام الله، وهناك عقدوا اجتماعا فصائليا ومن خلال هذا الاجتماع تم تشكيل القيادة الوطنية الموحدة، هذا للدلالة على الدور الذي اضطلعت به نابلس على مستوى الوطن، وبعد ذلك شكلت القيادة الوطنية الموحدة على مستوى الوطن، وسارت الأمور بشكل جيد، وتم التأسيس لمرحلة جديدة، حيث انتظم عمل الانتفاضة، وسار بشكل منظم، وأصبحت الانتفاضة القانون الذي يحكم سلوك الناس، وذلك ضمن برنامج وفعاليات ومراحل، اصبحنا نتحدث عن مؤسسة، مؤسسة العمل الانتفاضي.