سنى فؤاد لوباني / حينما ينطق الحرف

سنى فؤاد لوباني، كاتبة وأديبة فلسطينية، تحمل شهادة الماجستير في علم النفس العيادي، وتُقيم في مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين شمال لبنان. من بين الأزقة المكدّسة بالحنين والمقاومة، خرج صوتها الأدبي ليُدوّي بما سُكت عنه طويلًا، ناقلةً وجع المخيمات، وخيبات المنفى، ونبض القضية.
تُعدّ سنى من الأصوات الإبداعية النادرة التي تُجيد تطريز الحرف بأنفاس المقهورين، وتُضيء بزخمها السردي على جوانب منسية من الحياة في المخيم، حيث يتقاطع الخاص بالعام، والذاتي بالجمعي، والذاكرة بالحاضر الموشوم بالمأساة.
في عام 2021، أصدرت عملها الأول “مرقده فؤادي” عن منتدى شاعر الكورة الخضراء عبد الله شحادة، لتكون أصغر كاتبة فلسطينية تصدر كتابًا من قلب مخيمات الشتات، وتحصد به جائزة أدبية متميزة.
“مرقده فؤادي” ليس مجرد كتاب، بل وثيقة وجدانية تنبض بالألم، كتبتها سنى لوباني بمداد الذاكرة الدامية، تسرد فيها حكاية والدها الشهيد، فتغدو القصة شخصية ووطنية في آن. لا تحكي فقط عن فقد الأب، بل عن ضياع الوطن، وعن المخيم الذي أصبح متحفًا للأحلام المحترقة.
هذا الكتاب لا يُقرأ فقط، بل يُعاش ويُنقش في الوجدان. هو فعل مقاومة بالحبر والدمع، تكتبه سنى بصوت أنثوي يروي النكبة من الداخل، لا كحدثٍ مضى، بل كجرحٍ مفتوح في نسيج الحياة. بهذا العمل، تفتتح مشروعًا أدبيًا يحوّل الحكاية الشخصية إلى وثيقة وطنية، والألم إلى أدب، والحنين إلى أداة كفاح.
وفي عام 2023، ومن منطلق إيمانها العميق بقدرات اللاجئين الفلسطينيين ومواهبهم المتجذّرة في الألم والأمل، قامت موسوعة المخيمات الفلسطينية بتبنّي طباعة الكتاب الثاني للكاتبة سنى فؤاد لوباني، بعنوان “مرحبًا يا لُبَّ روحي”، لتُكمل به مشروعها الأدبي والإنساني، الذي يدمج بين الحسّ الإبداعي والمعرفة النفسية العميقة.
“مرحبًا يا لُبَّ روحي” ليس مجرد خواطر عاطفية، بل صرخة وجع وتشريح نفسي للحب حين يُصبح مأوى للمضطربين. تدمج سنى لوباني في هذا العمل بين علم النفس العيادي والكتابة الأدبية، لتعرّي مشاعر العشاق المثقلين بالتشوهات والاضطرابات العاطفية.
في هذا الكتاب، يتحوّل الحب من دفءٍ مألوف إلى نارٍ تلتهم الأرواح، حيث لا خلاص للمحب ولا مهرب من سطوته. إنه نصّ يلامس هوس العشاق، ويكشف التباس المشاعر بين الأمان والتعلّق، والحنان والاعتمادية.
“مرحبًا يا لُبَّ روحي” هو قاموس وجدانيّ للحبّ المشوَّه، عن الأمنيات الموءودة، والهواجس العالقة، والرسائل التي لم تصل، فارتدت إلينا لتبوح بما عجزنا عن قوله.
كما صرّحت الكاتبة سنى فؤاد لوباني لموسوعة المخيمات الفلسطينية أنها تعمل على مشروعها الروائي الجديد الذي يحمل عنوان “أطياف وطن”، وهو عمل أدبي يسعى إلى إعادة إحياء القضية الفلسطينية بسردٍ مبتكر، بعيدٍ عن القوالب الجاهزة والطرح التقليدي المتكرر، في محاولة لخلق خطاب سردي مغاير يخاطب الجيل الجديد بلغته، ويعيد تقديم فلسطين كفكرة نابضة بالكرامة، وليست مجرد حكاية نكبة تُروى.
تقول الكاتبة إن الرواية لا تُعنى فقط برصد الألم أو إعادة توثيق الجراح، بل تسعى إلى تثبيت الوعي الفلسطيني من زاوية وجدانية-فكرية، عبر شخصيات مثقفة ولاجئة في آن، ترى في الانتماء مقاومة، وفي الحبر سلاحًا لا يقل عن الرصاصة. فالرواية ترصد رحلة الهوية في المنفى، لا بوصفه غيابًا، بل بوصفه بيئةً لإنبات الذاكرة وتشكيل الأبطال.
“أطياف وطن” تسعى إلى إحياء فلسطين من بدايتها حتى لحظتها الراهنة، من خلال حكاية حبّ تنمو في ظل الاحتلال، وتصبح انعكاسًا للعلاقة المتوترة بين الفلسطيني وأرضه. هي رواية حب ومجازر وخرائط منفية، تُعيد تشكيل القارئ من الداخل، لا عبر خطاب مباشر، بل عبر نثرٍ جماليّ مشبع بالرمز والشغف والوعي.
في هذه الرواية، اللاجئ ليس ضحية بل حاملُ إرث. الشتات ليس سقوطًا، بل تجليًا لهوية تقاوم التفكك. ومن رحم المكتبات، المخيمات، الكتب، والأحاديث العابرة، تولد الحكاية التي تقول إننا أبناء قضيّة لا تموت، بل تتشكل من جديد مع كل جيل يؤمن بأن الوطن لا يُروى فقط، بل يُعاش، ويُحب، ويُقاوَم.
رواية “أطياف وطن” هي عملٌ أدبي مشحون بالعاطفة الوطنية، تتشابك فيه خيوط الحُبّ والحنين والهوية والمقاومة، في سردٍ يتنقّل بين زمنين: زمن الشتات واللجوء، وزمن المواجهة والذاكرة.
الرواية تنفتح على صوت أنثويّ حادّ الوعي بالهوية، تعيش البطلة فيه ازدواجية الانتماء بين وطنٍ مسلوب ووطنٍ يُعاد تشكيله في الذاكرة والمنفى. وتقدّم الرواية بطلين رمزيين: “وطن” و”جنين” – ليسا مجرد أسماء، بل رموزًا للأرض والفقد والمقاومة. “وطن” هو الشاب المقاوم الذي يظهر في حياة الراوية مصادفة في مكتبةٍ عتيقة، فتبدأ قصة حب مشحونة بالرمزيات، تتقاطع فيها الوطنية مع العاطفة، ويصبح اللقاء بالكتاب بدايةً للغوص في العمق الفلسطيني.
تتحدث الرواية عن التهجير، الفقد، المجازر، وعن ذلك الحنين الثقيل الذي يسكن اللاجئين في الشتات ويُعيد تشكيل وجدانهم اليومي. الحب هنا ليس عاطفة مجرّدة بل فعل مقاومة، و”الحبيب” هو امتداد لفلسطين، للقضية، وللبندقية.
اللغة في الرواية شاعرية دون أن تُغفل الطابع السياسي، تحفل بالمجازات والرموز، كما تتّكئ على سرد داخلي يعكس تصاعد الوعي الوطني والعاطفي لدى البطلة. وتنتهي الرواية بوعدٍ غير مكتمل، كأنها تعكس واقع وطنٍ لم تكتمل حكايته بعد، لكنه ماضٍ نحو التحرير.
“أطياف وطن” ليست مجرد حكاية حب، بل نشيدٌ من الحنين الثوري، ورسالة حبّ لفلسطين تُكتَب بالدم والحبر والذاكرة.
تصدير المحتوى ك PDF