الخبز الفلسطيني في كتاب.. من حبة القمح إلى الطاحونة.. حضور في الذاكرة الشعبية والنصوص المقدسة

الخبز الفلسطيني في كتاب.. من حبة القمح إلى الطاحونة.. حضور في الذاكرة الشعبية والنصوص المقدسة

الخبز الفلسطيني في كتاب.. من حبة القمح إلى الطاحونة.. حضور في الذاكرة الشعبية والنصوص المقدسة

 وديع عواودة

 يوثّق الكتاب الجديد “الخبز في فلسطين”، مسيرة الرغيف في التراث الفلسطيني، من زرع حبة القمح حتى التنّور، مرورًا بالحصاد وتقاليد البيادر، ويكشف عن وجود 33 نوعًا من الخبز، وعن حضوره في الثقافة والأمثال الشعبية وفي الكتب السماوية.

والكتاب “الخبز في فلسطين: صار بيننا خبز وملح”، صادر عن مركز الدراسات القروية في بلدة معليا في الجليل الأعلى، وهو من تأليف الباحثين الدكتور شكري عرّاف، ميري زيتون، وإسكندر عطية، وفيه يوثّقون جوانب متعددة من ثقافة الخبز في المجتمع الفلسطيني، من الزراعة والبيادر إلى التنّور والطابون والأفران في مدن فلسطين، مرورًا بالأمثال الشعبية والكتب السماوية وغيرها الكثير، وهذا ينطوي على قيمة تاريخية وسياسية كبيرة، كونه عملية توثيق للحياة الاقتصادية والاجتماعية في فلسطين، ومساهمة في حفظ الذاكرة الجمعية، وتعزيز وتوريث الهوية الوطنية الفلسطينية للأجيال، في ظل تصاعد حيوية التمسّك بالرواية التاريخية.

من الحبة للرغيف

يُقدّم الكتاب المسيرة المفصّلة لـ “صناعة مادة الحياة”، ويستعرض 33 نوعًا من الخبز المحلي بأسمائها وتنوعها الجغرافي، مثل الزقومي، الملي، الفرشوخة، الزعموط، الكماج، الدعبوب، الغلايس، الفوجة، القربان، الرقيق، كعك القدس، خبز الملة، الملاتيت، السمط، أو القرشلي، وغيرها.

ويتضمّن إشارة لمصادر التسميات، مع تحليل لغوي وأنثروبولوجي لأصول هذه التسميات واستخداماتها.

 

ويوضح الباحث إسكندر عطية لـ “القدس العربي” أن هناك اختلافًا في الأسماء لذات نوع الخبز في فلسطين نفسها، وكذلك خارجها. ويتابع: “علاوة على 33 نوع خبز، استحدث أهالينا في غزة، في ظل محنتهم، نوعًا جديدًا من خبز العدس وخبز العلف”.

ويستعرض الكتاب بالتفصيل الكثير من مكونات العالم المرتبط بالقمح والرغيف: خرافات وفولكلور حول الخبز، إنتاج القمح في فلسطين، الحصاد، الغربلة، الجرش، الطحن، مخازن الحبوب، أدوات العجن، طريقة الخبيز، والمخابز العربية في فلسطين من البحر إلى النهر، خاصة في القدس، يافا، عكا، وغيرها.

مطاحن فلسطين

يشمل الكتاب مئات الأمثال الشعبية المرتبطة بالخبز، مثل:

“يا متّكل على خبز جارتك هموم الليالي زارتك”،

“يوم الطاحونة يوم”،

“اللي عنده قمح بقرض الناس طحين”،

“كل الطرق تؤدي للطاحونة”،

“يطحن بالمي”،

“اطحن الميّ بتظل ميّ”،

“اطحن بسبع مطاحن واخبز بباب بيتك”،

“يا رايح ع غير هالطاحونة، خيّط بغير هالمسلة”،

“أسمع جعجعة ولا أرى طحناً”،

“مثل دولاب الطاحونة”،

“مثل اللي رايح يطحن عند ابن خالته”،

“وقع الحب بحلق الطاحونة”،

“الطحّان ما بغبّر على كلّاس، وكلّاس ما بغبّر على طحّان”،

“الشعير للحمير”،

“زاد واحد بكفي اثنين”،

“لقمة من القلب بتشبع ألف”،

“لقمة الضيف ما بتفقر”،

“اللقمة بتبعد النقمة”،

“الخبز نعمة الله”،

“الخبز مصحف الله”، إلخ.

 

وكان الباحث الدكتور شكري عرّاف قد وثّق كمية كبيرة من الأمثال العربية الشعبية تمّت الاستفادة منها، وذلك في كتاب “بين المتحفية والاستمرارية”.

 

وعملت المطاحن المعتمدة على قوة دفع وطاقة الماء في فلسطين من بحرها إلى نهرها، وبلغ تعدادها 480 مطحنة في فترة الاستعمار البريطاني، وينشر الكتاب أسماءها.

ويلفت عطية إلى أن هذه المطاحن التاريخية تجاوزت وظيفتها التقنية في طحن الدقيق، ولعبت دورًا مهمًّا في الحياة الاجتماعية، خاصة أن الناس اضطروا للبقاء فيها وفي محيطها ساعات، ومن هنا جاء المثل “يوم الطاحونة يوم”.

وعن ذلك يضيف إسكندر عطية: “كانت المطاحن في فلسطين مكانًا للقاءات الاجتماعية، وفيها بحث البعض عن عروس أو عريس، وعن ترفيه، وكانت من هذه الناحية (مقهى أيامنا)، وهذا ما تغنّي له السيدة فيروز”،

 

ويضيف: “عندما تغني فيروز عن المطاحن في لبنان، فهي عمليًّا تتحدث عن مطاحن فلسطين، وهي تغني أيضًا: (كان عنا طاحون ع نبع المي) أو (كان عنا طاحون)، وهذا ينطبق على فلسطين، فالطاحونة هنا لعبت دورها في لبنان الغذائي والاجتماعي”.

 

وفي الكتب المقدسة، هناك مواد كثيرة عن الخبز ومراحله ومعانيه واستخدامه في لغة المجاز، كما تذكّر الباحثة ميري زيتون، مقدّمة بعض الأمثلة: “في الإنجيل، يقول الرب لآدم بعد ارتكابه الخطيئة: (من عرق جبينك تأكل خبزك)”، وقال السيد المسيح: “أنا هو خبز الحياة”، وارتبطت واحدة من عجائبه بالخبز، “عجيبة الخبز والسمك”.

وهكذا في الإسلام، ذُكر الخبز مرة واحدة في القرآن، وكثيرًا ما ذُكر في الأحاديث، وكان النبي محمد محبًّا لخبز الشعير، حبًّا بالتواضع وبالصحة، وهو خبز الفقراء، فأسماه “نعمة الله”، وفقًا للأحاديث.

ويقدّم الكتاب نُقْحَرة للتسميات، وتحليلًا دلاليًّا، كما يُفرد فصلًا عن ذكر الخبز في الكتب السماوية، من “خبز الحياة” في الإنجيل، إلى “نعمة الله” في الحديث النبوي، مع تحليل رمزي لوظيفة الخبز كمادة مقدسة.

 

المرأة والرجل يتقاسمان إعداد الرغيف

ويبرز الكتاب دور المرأة الفلسطينية في تحضير الخبز، بيد أنه يقوم بتفنيد الصورة النمطية التي اختزلتها في دور محدود داخل المنزل فقط، وذلك بالإشارة إلى دور الرجل معها في توفير مكوّنات وإعداد الرغيف.

وتوضح زيتون هنا أن مسيرة الرغيف عبارة عن مسلسل فلسطيني طويل، فالقصة أكبر من سيدة تعجن وتخبز، منوّهة أن الرجل قدّم الكثير إلى جانب المرأة، بدءًا من زرع حبة القمح حتى المائدة.

 

بين فسوطة ومعليا

وتوضح الباحثة زيتون أن هذا العمل يأتي ضمن سلسلة من الدراسات التي عملا ويعملان عليها بالتعاون مع مركز دراسات القروية، بإشراف المؤرخ والجغرافي الدكتور شكري عرّاف.

كما تستذكر الباحثة ميري زيتون دراسة أنجزتها حول اللهجات والعادات في قريتي معليا وفسوطة، وهما قريتان متجاورتان، لكن أهالي معليا يشدّدون على حرف القاف في لهجتهم، بينما يلفظها أهالي فسوطة بالهمزة (“الآل”).

وتعتقد هي الأخرى أن لهجة القاف المفخّمة في معليا، والنادرة في فلسطين، عدا بعض البلدات، مثل لهجة أهالي قرية طرعان قضاء الناصرة، أصلها من بلدات بني معروف الدروز في بلاد الشام، علمًا أن باحثين آخرين، أمثال عصام عرّاف، يعتقدون أن أهالي معليا المسيحيين أصلهم دروز، ما يفسّر لهجتهم بالقاف، والقريبة جدًا من لهجة بني معروف.

 

وقدّمت زيتون دراستها عن اللهجات كأطروحة ماجستير في جامعة حيفا، تحت عنوان: “فسوطة ومعليا: بحث مقارن في اللهجة والتراث والحضارات”.

ويشير الباحث إسكندر عطية إلى دراسة أخرى مرتقبة عن الأحراش الفلسطينية، وتاريخ الموحّدين الدروز، بالإضافة إلى موسوعتين: الأولى عن المواقع والأسماء الفلسطينية، تشمل آلاف المواقع والتضاريس.

يُشار إلى أن الباحثين ميري زيتون وإسكندر عطية، وكلاهما في نهاية العشرينيات من عمرهما، قد تعرّفا على بعضهما البعض قبل عام ونيّف من خلال الدراسة في مركز الدراسات القروية، وتقول ميري زيتون، ابنة مدينة البشارة، الناصرة، متودّدة: “ذهبت للجليل الأعلى، لمعليا وفسوطة، للبحث عن اللهجات، فلقيت عطية. بعدما تعرّفت على زوجي، عدت بدراسة أكاديمية وبعريس، وانطلقنا في مسيرة الزوجية والدراسة المشتركة معًا”.

ويتذكر إسكندر وميري معلمهما و”والدهما الروحي”، الدكتور شكري عرّاف، الذي بسط رعايته الأبوية والعلمية عليهما من خلال العمل والإرشاد والتعاون في إطار مركز الدراسات القروية في معليا.

وتتابع ميري: “شكري عرّاف في الرابعة والتسعين من عمره، وما زال يعمل بجد وكدّ ونشاط كل يوم، يُنتج الكثير، ونجتهد للحاق به. فحماه الله وأبقاه مصدرًا للعلم، وملهمًا للشباب”.



تصدير المحتوى ك PDF

إضافة محتوى