وجدان لاجئ
وُلِدْتُ في مخيم الرمدان ..مخيم فلسطيني صغير أنشئ عام 1953 بعد التغريبة الفلسطينية، شمال شرق العاصمة السورية (دمشق) ، ويبعد عن مركزها 60 كم؛ بالقرب من بلدة "الضمير" التي تُعَدّ آخر منطقة مأهولة بالسكان على طريق "دمشق – بغداد" .
عشت حياة بسيطة في كنف عائلة بسيطة تجمعنا روابط المحبة .كان بيتنا غرفتين من الطين مسوّر بحوش كبير و أرض زراعية منحتها لنا وكالة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة لقاء تنازلنا عن كرت العاشة ( مساعدات الطحين و الزيت و علب السردين…)تبع الوكالة.
زرع أبي الأرض نصفها بأشجار الزيتون و نصفها الآخر بطيخ و ملوخية و بندورة و خيار …لكي نعتاش منها و نبيع الباقي .حادثة غريبة حصلت معنا هناك لا تُنسى و هي أن ضبع من الضباع الشرسة كان يأتي في الليل يخرّب في المزرعة و يكسر البطيخ ممّا أغضب أبي الذي ظنّ بأن شخصاً ما هو الذي يعمل هذا الخراب .أخذ أبي عصاً غليظة و حبلاً و حلف بأنه سيمسك بهذا المخرّب و يحضره مقيداً أمام المخيم.في المزرعة تفاجأ ابي بأن المخرّب ضبعاً. عندها هجم الضبع على ابي و دارت بينهم معركة استطاع ابي اخيراً بالإمساك بالضبع و تقييده بالحبل و جرّه الى بيتنا حياً و ربطه أمام البيت .في الصباح اجتمع الناس عند بيتنا ليشاهدوا الضبع و كانت يدا ابي و كتفه ملطخاً بالدماء.تقدم شاباً من أحد جيراننا و هو ابو أحمد الشجراوي و طلب من أبي أن يبيعه الضبع. أشتراه الشجراوي بخمسة ليرات و كان ذلك المبلغ حينها ثروة.أخذ الشجراوي الضبع و وضعه في حوشه و كل من يريد رؤية الضبع يجب أن يدفع فرنكين (عشرة قروش سورية) . بعد أن عَلِمت الشرطة بالحادثة جاءت عند المساء مع سيارة البلدية و نقلو الضبع الى حديقة الحيوان ربما في بلدة دوما.كثيرٌ من سكان مخيم الرمدان لا زالو يتناقلون هذه الرواية .لا زال الشاب الشجراوي حياً يُرزق الى الآن بعد أن أصبح كهلاً .و لا زالت في نفسي رغبة بلقاءه علّني استرجع بعض ذكريات والدي لكن منعتني سنين الحرب في سورية عن ذلك بعد ان باعدت بيننا المسافات.قال الشجراوي و آخرين بأن والدي كان شديد البأس و قوي القلب استطاع الدفاع عن بلدته (ناصر الدين) التي تقع على مدخل مدينة طبريا بفلسطين حتى الرمق الأخير ببندقية أعطاها له زوج اخته الشيخ محمد اسماعيل السميري مختار السمايرة.لكن بعد نفاذ الذخيرة و دخول عصابات الهاغاناه بمساعدة الانكليز و ارتكابهم مجزرةً مروّعة في بلدة ناصر الدين ،انسحب المقاتلين باتجاه بلدة لوبيا بعدما جهّزوا أنفسهم للانضمام الى ثوّار لوبيا.أثناء ذلك قال والدي لقائد كتيبة جيش الانقاذ ( الجيش العربي الذي دخل لمساعدة الفلسطينيين) بأن قذائف جيش الانقاذ عم تنزل على القرى الفلسطينية و ليس على جيش الاحتلال ممّا أغضب القائد و أمر بسجن والدي. بعد أن أمضى فترة بالسجن ، تدخّل وجهاء طبريا و هم سليمان جبول و محمد الدلكي ، خرج والدي من السجن ثم التحق مع الثوار الباقين و تواصلت المجازر على الفلسطينيين و كانت بداية النكبة و التغريبة.
انا الآن في السويد. لا زالت نكبتنا مستمرة و لا زلت لاجئاً أتنفس هواء فلسطين . الحياة نفسها مثيرة للتساؤل، لم أختر القدوم الى هنا، لم أختر منطقتي الجغرافية . أسئلة كثيرة تتراشق في رأسي ، و أحياناً يتملكني شعورٌ غريب ، أهوَ الامتنان ؟ الامتنان لأنني بطريقة ما مُنِحْتُ الحياة.
تصدير المحتوى ك PDF