ذاكرة الشعر... ذاكرة الوطن..الشاعر الشهيد: عبد الرحيم محمود

ذاكرة الشعر... ذاكرة الوطن..الشاعر الشهيد: عبد الرحيم محمود.
خاص مؤسسة القدس للثقافة والتراث / بقلم الشاعر الناقد محمود حامد
.. بقدر ما كان جرح نكبة فلسطين عميقاً، كان صمود شعبنا أعمق بوقفته الأبيّة في وجه – العاصفة/ الفاجعة – والتي اكتسحت تراب الوطن، على أن تحصد بحراب خرابها الدّمويّ ما يمتّ للأرض بصلة التاريخ والثقافة والحضارة والوجود، ولكنّ آثار النكبة واجهتها إرادة شعبٍ تصدّى وتحدى وصمد وقاوم، فما زال اسم فلسطين من الوجود، ولا ضاع اسم شعبها من خارطة العالم، أو ذاب وانتهى في بوتقة الآخرين التي جاورها مكرهاً ومضطراً، وعبر المنافي والعواصم التي أرغمته ظروف القهر والكيد على الإقامة الطارئة فيها عابراً، لا مقيماً، وبذا حافظ على هويته وانتمائه حفاظاً قوياً لم تؤثر به الحادثات الغادرة لكسر شوكته، وحدّته الوطنية، ولا أثّرت به الأيّام والأعوام ليتبدّل، ويتغيّر ثم يتلاشى!!! وبقدر ما كان الزلزال طاحناً ومدمراً، فإنّ قدرة هذا الشعب كانت أقوى من الزلزال بحيث لجمت عنفه الهادر، وحوّلت طاقته قدرةً فعّالةً لصالح شعبنا، وظلت إرادة الأجيال في صعودها المتنامي، حتّى استعاد كيان الأمة وقفة عزّه في ساح صموده، واستعاد الوعي العربيّ قدرته على التحدي والمواجهة، وبدأت تتكشّف، فيما بعد، رؤىً كانت قبل ضبابيةً وغائمةً وغير واضحة، منها: الطّاقة المعرفية والعلمية الهائلة التي تحدّى بها الفلسطينيون زلزال النكبة والإغتراب والغربة، فكانوا الشعب الأكثر علماً ومعرفةً من بين شعوب العالم، ثم الحفاظ على الهوية الوطنية، حيث لم تستطع قوة في الأرض من طمس الهوية العربية الفلسطينية، أو إذابة الكيان الفلسطيني في المجتمعات والكيانات التي حلّ عليها ضيفاً طارئاً لوقتٍ ما... له موعد للنهاية، مهما طال الزمن، والإبقاء على الرّوح العربية الفلسطينية سارية في الأجيال، بقوة اليقين والإيمان بحتمية العودة، والشيء الأهمّ والأروع والأخطر في نظر عصابات صهيون التكاثر والتّنامي المذهل للفلسطينيين حيث في وقت ما، وخاصّةً داخل الوطن المحتل ستكون نسبة الفلسطينيين فوق تراب وطنهم
القوة الخارقة العظمى أمام نسبة تتهاوى لشتات العابرين، وعندها ستك
الطامّة الكبرى على عابري الشتات الغاصبين، وفي مجال الثقافة والعلم فشعبنا من أوائل شعوب الدنيا في هذا الخندق الخطير، والشعراء/ المربّون الرائعون المناضلون، وبفضل من الله، أبدعوا أجيالاً فلسطينية مثقفة هي الدرع الواقي للوطن، والهبّة القادمة للنصر والتحرير.
.... تلك كلّها من عوامل النًذر والتي بشّر الله بها من علياء سمائه، تضعنا في معراج الدّرجة القصوى من التفاؤل والأمل من خلال ميزان النّسبة والتّناسب الذي يقول: يضحك كثيراً... من يضحك أخيراً!!!
ولعلّ الشيء الرّائع في الموضوع كثرة ووفرة: - المربّين/ الشعراء، الشعراء/ المربين... وفرة بارّة... خيّرة... قدوة، أنتجت أجيالاً عربيّة فلسطينية أشدّ التصاقاً بوطنها، وأحدّ ضراوةً في عشقها لفلسطين، وأخطر في ساح الثّأر والمواجهة، على يدها – إن شاء الله تعالى – يأتي النصر والفتح والتحرير، والعودة!!! من هنا، فإنّ الشعر قد لعب دوره الحاسم، والهام جدّاً في إيقاظ صحوة الجماهير على ثأرها ومقاومتها وبناء درب عودتها،ـ وبناء الأجيال بناءً وطنياً رائعاً، وإلهاب حماسها تجاه وطنها، وترابه الطّهور، هذا كله حرّك شرف الكلمة في استلهامها الكتابة لمشروع شعراء فلسطين ذاكرة الشعر... ذاكرة الوطن، لأهمية المشروع الثقافي والتوثيقي والتاريخي لفلسطين وشعبها، وأدبها، وحضورها الإنساني في وجدان الزمن والحياة.
شاعر هذه الدراسة هو الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود، والذي ارتبط اسمه بأعظم الوقائع والمواقع النضالية ليس على صعيد فلسطين فحسب، بل أرض الرّافدين حيث تذكر أفعال هذا المناضل الشهيد، والعراق يذكر كم تعطرت أجواؤه بذكريات عبد الرحيم محمود، وهو يقف مع ابطال العراق للدفاع عن ثرى العروبة هناك، وخاصّة الثورة التي قادها رجل العراق الوطني رشيد عالي الكيلاني في أربعينات القرن الماضي، حيث لم يكن عبد الرحيم محمود لوحده آنذاك، بل مجموعة من ثوار فلسطين ومجاهديها والذين درسوا وتخرجوا من الكلية العسكرية في بغداد، وعلى رأسهم الحج أمين الحسيني رئيس الهيئة العربية العليا لفلسطين، وشهيد عروبة فلسطين القائد الشهيد عبد القادر الحسيني، وبعد التخرّج لم يعد الشاعر محمود لفلسطين، حيث كونه أحد الدارسين الأوائل، والذين استكملوا دراستهم في مدرسة النجاح الوطنية، وكان إبراهيم طوقان شاعر فلسطين المعروف أحد المعلمين الذين درّسوا الشاعر الشهيد، لذا عندما أنهى علومه العسكرية في العراق، قامت إدارة البلد آنذاك بتعيينه مديراً لمدرسة البصرة الإبتدائية... وحيث كان قد توغل في موضوعة الشعر، وبحوره، وأسسه التي يقوم عليها الشعر العربي الأصيل، فإنه كان من الشعراء الأوائل والذين ذاع ذكرهم من الشعراء الطليعة في فترة الثلاثينات من القرن الماضي، وكان شاعر الموضوعات الوطنية والثورية آنذاك... وشاعر فلسطين الملهم، ووطن العروبة الكبير عاش وما زال على قصيدة الشاعر الشهيد محمود والتي تحمل عنوان سأحمل روحي على راحتي... أروع القصائد العربية في حبّ الوطن والتي خلّدت الشاعر الشهيد على مرّ الزمان، وأبيات القصيدة تقول:
سأحمل روحي على راحتي
وألقي بها في مهاوي الرّدى
فإمّا حياةٌ تسرّ الصّديق
وإمّا مماتٌ يغيظ العدى
ونفس الشّريف لها غايتان
ورود المنايا ونيل المنى
لعمرك إني أرى مصرعي
ولكن أغذّ إليه الخطى
أرى مقلتي دون حقّي السّليب
ودون بلادي هو المبتغى
يلذّ لأذني سماع الصّليل
ويهيج نفسي مسيل الدّما
(ملاحظة: هذه الشطرة فيها خلل واضح، وربما جاء خطأ الطباعة والنّاقل والصحّ كما أثبتّه:
-إمّا: يهيّج نفسي مسيل الدّما
دون (الواو) قبل الفعل....
-أو: وكم هيّج النفس سيل الدّما).
وجسمٌ تجندل فوق الهضاب
تناوشه جارحات الفلا
فمنه نصيب لأسد السّماء
ومنه نصيب لأسد الشّرى
لعمرك هذا ممات الرجال
ومن رام موتاً شريفاً فذا
بقلبي سأرمي وجوه العداة
وقلبي حديد وناري لظى
وأحمي حياضي بحدّ الحسام
فيعلم قومي بأنّي الفتى...
.... قصيدة عبد الرحيم محمود هذه، اعتبرت من أهم القصائد الوطنية التي تداولتها، وما تزال تتداولها الألسن من أكثر من ثمانين عاماً، ولكن:
1)لقد وعينا من صغرنا، ومن جاء من بعدنا من الأجيال:
على البيتين الأول والثاني فقط لكونهما ذهباً مثلاً في الناس، ونشيداً وطنياً طرق الأسماع، ودغدغ مشاعر الجماهير بحماس وقوة:
سأحمل روحي على راحتي
وألقي بها في مهاوي الرّدى
فإمّا حياةٌ تسرّ الصّديق
وإمّا ممات يغيظ العدى
2)وهنا ننتقل للسؤال الثاني، والمهمّ جداً:
أ.لدى الشاعر قدرة جيدة في صياغة الشعر، ونظم القصائد.
ب.فلماذا جاءت القصيدة على شكلها الجميل في بيتيها: الأوّل والثاني بالقافية والرويّ: الرّدى، العدى، بحيث حفظت وحفرت ببيتيها في ذاكرة الأجيال!!؟
ت.لماذا لم يكمل الشاعر قصيدته على القافية والرويّ كما ورد في البيتين (1) و (2) كما فعل الشابي في قصيدته:
إذا الشعب يوماً أراد الحياه فلا بدّ أن يستجيب القدر
ولا بدّ لليل أن ينجلي ولا بدّ للقيد أن ينكسر... الخ
ث. لو فعل عبد الرحيم محمود ذلك لخلدت قصيدته كلها كقصيدة الشابي، أو على الأقلّ لو جعلها ثلاثيات، أو رباعيات، أو ثنائيات، كما في البداية، ولكن!!؟ ومع ذلك فإنّ القصيدة ولو ببيتها الإثنين، فإنها أيضاً خلدت في: ذاكرة الأجيال!!!
... ودليل قدرة الشاعر عبد الرحيم محمود على صياغة القصائد الطويلة على قافية ورويّ واحد، فله عشرات القصائد في ذلك، والآن سنقف عند مقطع من قصيدته التي نظمها في البصرة، عندما كان مديراً لمدرستها الإبتدائية، حيث هزّ مشاعره: نخيل العراق وهو يتهادى كالرّماح على ثرى جزء من وطن العروبة... فذكّره النّخيل ببرتقال فلسطين، وتينها وزيتونها، بل ذكّره بنضالها وجراحاتها، وشهدائها الذين خضّبوا ثراها بالدّم، والعزّة، والكبرياء:
.... بني وطني دنا يوم الضّحايا
أغرّ على ربى أرض المعاد
وما أهل الفداء سوى شباب
أبيّ لا يقيم على اضطهاد
أثيروا للنضال الحقّ ناراً
تصبّ على العدا في كلّ وادي
فليس أحطّ من شعبٍ قصيرٍ
على الجلّى... وموطنه ينادي
... شاعر وشهيد حقيقةً، ومجاهد بذل دمه وروحه وشعره في سبيل وطنه فلسطين، ووطن العروبة: حيث يكون هناك جهاد ونضال وتضحيات، وشاعر طليعيّ من أوائل شعراء العروبة والعربية... صادق العاطفة، شفيف الرّوح، قويّ النّبرة، عميق الفكرة، والعبرة ولديه الدراية الكافية بشعرنا العربيّ الأصيل، وتعمّق فيه جيداً، وهو المعلم والمربّي والشاعر، ولو طال به الزّمان حياةً لأبدع شيئاً آخر في الشعر والجهاد، ولكن طال به الزمان... شاعراً... شهيداً... في الخالدين... يحسّ القارئ وهو يردّد شعره... بأنّ هذا الشعر لصيق بالذات والرّوح، لصيق بنبض القلب والوجدان، شعر نزفه شاعر أصيل من وجدان أصيل، فغاص وتغلغل في وجدان أصيل، وفي مشاعر فذّة تدرك وتعي جيداً ما تقرأ، وما تنشد، وما تردّد ذاكرتها الحيّة.... على مرّ الزّمان، وعبد الرحيم شاعر روى عطش وطنه وقرائه بشعره الملتهب بحبّ وطنه، وترابه الغالي... فوق ثراه غنّى، وفوق ثراه استشهد، وعلى ذراه بعث ليكمل نشيده الخالد:
... فكرةٌ قد خالطت كلّ الفكر
صورةٌ قد مازجت كلّ الصّور
هي في دنياي سرّ مثلها
قد غدا اسم الله سرّاً في السّور
يا بلادي يا منى قلبي إن...
تسلمي لي أنت فالدّنيا هدر
لا أرى الجنّة إن أدخلتها
وهي خلوٌ منك إلّا كسقر
منيتي في غربتي قبل الرّدى
أن أملّي من مجاليك البصر
ظمئت نفسي لمغناك فهل
يطفئ الحرقة بالعود القدر!!؟
فيصلّي القلب في كعبته...
وتضمّ الرّوح قدسي والحجر!!؟
ويلاقي كلّ ألفٍ إلفه،
ويلمّان الشّتيت المنتشر
يا بلادي أرشفيني قطرةً
كلّ ماءٍ غير ما فيك كدر
ليت من ذاك الثّرى لي حفنةً
أتملّى من شذا التّرب العطر!!!
... وكما أبدع عبد الرحيم محمود في شعره الوجداني والوطني، وقاسمه شعره خندق الجهاد، والإستشهاد، فقد أبدع في فنون الشعر الأخرى، وكأيّ شاعر في الدّنيا تعدّدت مواضيعه، وعناوينه، فقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة يوم 13/7/1948م أنشد:
احملوني احملوني
واحذروا أن تتركوني
وخذوني لا تخافوا
وإذا متّ ادفنوني
... هكذا عانق الشاعر الشّهيد ثراه، وهكذا أيضاً عانق الثرى الشّهيد شهيده، وشاعره الخالد، وروعة تلك الشهادة أنّها ضمّت تحت خفق جناحيها شهيدين... وستظلّ النّاصرة في فلسطين تزهو وتفخر بأنها تضمّ في ثراها بطل السّيف والقلم: عبد الرحيم محمود غصباً عن أنف النكبة عام 1948م والتي اقتلعت شعب فلسطين لحين من تراب وطنه، ولكنه عائد في صبح الوعد بإذن الله، أمّا عبد الرحيم محمود فسنديانة قائمة في وطنها!!!
.... وهذه بعض ملامح السيرة الذاتية والجهادية والإبداعية للشاعر الشهيد: عبد الرحيم محمود...
-حيث ولد الشاعر في قرية عنبتا الواقعة في طولكرم بفلسطين عام 1913م.
-عاش في بيت أدب وشعر، ورعاه والده الشيخ محمود عبد الحليم رعايةً جيدة.
-درس المرحلة الإبتدائية في عنبتا، ثم انتقل في المرحلة التالية إلى مدرسة طولكرم، بعد ذلك أتمّ المرحلة الثانوية في نابلس في مدرسة النجاح الوطنية ذات الصبغة العربية الأصيلة، ومن معلميه هناك شاعر العروبة إبراهيم طوقان.
-عمل لفترة في سلك الشرطة أيام الإنتداب البريطاني ثم استقال لمواقفه الوطنية.
-درّس لفترة في ثانوية النجاح بنابلس.
-شارك في ثورة عام 1936م، ثم غادر للعراق كما ذكرنا مع مجموعة مجاهدين للتدريب هناك، وبعد تخرجه عمل مديراً لمدرسة بصرة الإبتدائية، وساهم مع مجاهدي فلسطين في ثورة رشيد عالي الكيلاني الوطنية في بغداد، ولكن المؤامرات حالت دون انتصار الثوار، فعاد مجاهدو فلسطين وعاد عبد الرحيم محمود لتربية الأجيال على العلم والمقاومة والجهاد... حتى جاء التقسيم يوم 29/11/1947م.
-التحق الشاعر بجيش الإنقاذ مقاتلاً بطلاً من طراز فريد كبقية أبطال فلسطين الأشاوس... وفي معركة الشجرة قرب طبرية أصيب إصابة بليغة يوم 13/7/1948م حيث لفظ أنفاسه في ساح المجد والشعر والمقاومة، ثم نقل جسده الطاهر ليدفن في ثرى وطنه الحبيب هناك، فله وللوطن ولشهدائنا المجد والخلود، والفردوس المقيم.
-خلّف الشاعر بعد رحيله زوجته وأولاده: طلال والطيب ورقية، وشعراً خالداً، وسيرة عطرة هي نفح الطّيب للأجيال، ودرباً للعودة افتتحه ورفاقه بالدّم والنشيد الهادر المدوّي عبر الزمان، كما خلّف لنا ديوان شعره... تقرؤه الأجيال عبرة، وتتّخذ من قصائده منارةً على درب العودة، وتستلهم من شعره ومقاومته، واستشهاده ورفاقه درب كفاحها المجيد، وعزمها وصمودها، والسّير على نهج شعرائنا الشهداء، ومقاومي الأمّة، ونسورها الخالدين.
...((...منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر))...
وما بدّلوا تبديلاً)).....
صدق الحقّ العظيم
المصدر : مؤسسة القدس للثقافة والتراث
تصدير المحتوى ك PDF