الجدار الحديدي.. وصفة جابوتنسكي لتهويد فلسطين

الجدار الحديدي.. وصفة جابوتنسكي لتهويد فلسطين

الجدار الحديدي.. وصفة جابوتنسكي لتهويد فلسطين

الجدار الحديدي لجابوتنسكي. 

المقالة منشورة في مجلة "ميغازين". 

 مقدمة المترجم

منذ بضعة أيام، شاهدتُّ فيلمًا وثائقيًّا قصيرًا على قناة الجزيرة بعنوان "ما تاريخ الأطماع الإسرائيلية في شرق الأردن؟"، بدأ بأنشودة جماعية باللغة العبرية، تقول بعض أبياتها: 

للأردن ضفتان 

الأولى لنا 

والثانية أيضًا لنا

وأضاف التعليق أن هذه الأغنية قد كتب كلماتها زئيف جابوتنسكي، فتساءلتُ بيني وبين نفسي: مِن المعروف أن جابوتنسكي كاتب ومنظّر سياسي، فمنذ متى هو شاعر؟ فقررت أن أقرأ القصيدة كاملة. وبالفعل وجدتها على غوغل وقرأتها، وبعد انتهائي من القصيدة رحت أكمل القراءة في سيرة حياة هذا الرجل. وخلال القراءة مر بي اسم مقالته الشهيرة "نظرية الجدار الحديدي"، التي كنا نردد بعض أفكارها منذ مطالع الشباب، فقررت قراءتها أيضًا. 

بحثت عنها في غوغل، وهنا كانت المفاجأة. بعد وقت مُضنٍ من البحث لم أجد ترجمة عربية للنظرية، فسألت صديقًا عن الأمر، فتطوع بالبحث معي عن ترجمة المقالة بالعربية، لكنه لم يجدها أيضًا، مع أننا وجدنا مقالات حول النظرية باللغة العربية، فقررتُ ترجمتها، ووجدت مقالًا مترجمًا إلى الإنكليزية نشره جابوتنسكي باللغة الروسية عام 1923 اسمه "أخلاقيات الجدار الحديدي" فترجمته مفترضًا أنه هو المقال المطلوب. لكن بعد أن انتهيت من الترجمة، أرسل لي صديق، مقالًا آخر نشره جابوتنسكي قبل ذلك المقال بأسبوع واحد تحت اسم "الجدار الحديدي". وهذا يعني أنهما مقالان مختلفان، وسوف نقدمهما على حلقتين. 

وقبل أن نقرأ النص، دعونا نلقي بعض الضوء على هذا الرجل وعلى نظريته وفكره شديد التطرف.

مدخل إلى معرفة جابوتنسكي

إن الحديث عن هذا الرجل لا يكفيه عشرات الصفحات، ولا المئات. لكن بنظرة سريعة يمكننا الوقوف على أهم المحطات في حياته. حيث وُلد في مدينة أوديسا الأوكرانية عام 1880، واعتنق الفكر الصهيوني عام 1903.

اختلف مع تيودور هرتزل حول مشروع شرق إفريقيا، أو ما سُمّي "خطة أوغندا"، التي كانت تهدف إلى أن يتم ترحيل اليهود إلى مناطق تحت السيطرة البريطانية في شرق القارة الإفريقية، وهو المشروع الذي وافق عليه تيودور هرتزل، لكنّ جابوتنسكي عارضه بشدة. 

وحين قامت الحرب العالمية الأولى أنشأ فيلقًا عسكريًّا تحت إشراف بريطاني، وأسماه الفيلق اليهودي. وعندما انتهت الحرب رفض أن يُحلّ الفيلق، فتحوّل عناصره إلى ميليشيا إرهابية لترويع السكان العرب، أهمها عصابة "الهاغاناه". ولهذا السبب نشأ الخلاف بينه وبين حاييم وايزمان، حيث إنه كان يتهم وايزمان وبن غوريون بأنهما مَرِنان وليّنان أكثر من اللازم تجاه السكان العرب. 

(لاحظ عزيزي القارئ تعبير "السكان العرب". فهو في جميع كتاباته كلها، لم يستخدم كلمة الفلسطينيين، وكان يستخدم بديلًا عنها كلمة العرب، فهم "السكان العرب" بالنسبة إليه). 

وحين ازداد العنف الذي تمارسه عصابة الهاغاناه، جرت محاكمته في محكمة بريطانية عام 1920 وحكمت عليه بالسجن خمس عشرة سنة مع الأشغال الشاقة ووضعه في سجن عكا. لكن بعد مرور بضعة شهور فقط، أُطلِق سراحه بعفو من بريطانيا. 

 بعد خروجه من السجن أصبح عضوًا في اللجنة التنفيذية لمنظمة الصهيونية العالمية عام 1921، لكنه بعد عامين فقط انشق عنها وأنشأ حركة بيتار، التي تبدو سياسية شكلًا لكنها عسكرية المضمون، وتمددت هذه الحركة إلى دول أوروبية عدة واستقطبت الشباب اليهود، فصاروا ينفذون تدريبات عسكرية خاصة بهم ويأتمرون بإمرة جابوتنسكي. وانبثق عن هذه الحركة مجموعة من المتطرفين الذين أطلقوا على أنفسهم اسم الصهيونيين التصحيحيين Revisionists، ردًّا على الصهيونيين العمليين أو العمّاليين Labor Zionists، أي التيار الذي يقوده حاييم وايزمان وديفيد بن غوريون. والبعض ترجم كلمة Revisionists بالصهاينة المراجعين، والبعض يقول عنهم الصهاينة التطهُّريين، ومهما كان الاسم، فهم أنفُسهم مجموعة الصهيونيين المتطرفين. ومن هؤلاء الصهيونيين التصحيحيين، سوف يبرز لاحقًا شخصان سوف يقودان دولة الكيان الصهيوني فيما بعد، هما إسحق شامير ومناحيم بيغن. وبسبب أفكار جابوتنسكي ونشاطاته قررت حكومة بريطانيا طرده من فلسطين نهائيًّا عام 1930. 

وفي عام 1937 حضرت لجنة بريطانية إلى فلسطين عُرفت بلجنة بيل Peel Commission، وأجرت دراساتها وتحقيقاتها الخاصة، والتي انتهت إلى قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين واحدة يهودية وأخرى عربية، فرفضه جابوتنسكي، حيث أعلن أنه يريد كل فلسطين بالإضافة إلى شرق الأردن ومعه بادية الشام. 

توفي جابوتنسكي عام 1940، وطلب في وصيته أن يُدفن في القدس بعد إقامة "الدولة". وعندما تم تأسيس الكيان عام 1948، وأصبح بن غوريون رئيسًا للوزراء، رفض تنفيذ وصية جابوتنسكي عدوه اللدود، بسبب الخلافات العميقة بينهما، حيث كانا يتبادلان الاتهامات السياسية، إذ كان جابوتنسكي يصف بن غوريون وحركته (حزب العمل) بأنهم مرنون وليّنون ومتراخون في التعامل مع السكان العرب، بينما راح بن غوريون يقول عن جابوتنسكي إنه فاشي وفوضوي ومتطرف لدرجة أنه مرة في اجتماع شعبي في تل أبيب أطلق عليه اسم فلاديمير هتلر. أي أنه انتزع اسمه الأول "زئيف" العبراني واستبدل به اسم فلاديمير الروسي. واسم الكنية هتلر كدليل على شدة تطرفه. كان بن غوريون يرفض نقل جثة جابوتنسكي إلى القدس، ويكرر "ولا حتى عظامه" Not even his bones

لكن بعد سنين بعيدة، وتحديدًا في عام 1964، عندما أصبح ليفي إشكول رئيس وزراء الكيان، تم نقل جثمانه ودفنه عند جبل سموّه "جبل هرتزل" ويقع في غرب القدس. واسم الجبل يدلّ على أنه تكريم لهرتزل، أي أن عمر التسمية حوالي مئة عام فقط، فهل قبل ذلك لم يكن له اسم؟ لا، كان اسمه "جبل عين كارم" بحسب الموسوعة الجغرافية الفلسطينية، حيث يقع على بعد بضع مئات من الأمتار عن قرية عين كارم التي احتُلت عام 1948. 

ومن الجدير بالذكر أن جابوتنسكي كان يتقن العديد من اللغات، بالإضافة إلى أنه شاعر، وهو الذي ترجم (الكوميديا الإلهية) لدانتي إلى اللغة العبرية. 

آخر ملاحظة أودّ أن أضيفها هنا، أن والد رئيس وزراء الكيان الحالي بنيامين نتنياهو، وهو المؤرخ الصهيوني بن صهيون نتنياهو، أو حسب الاسم الأصلي هو بن صهيون ميليكوفسكي، كان السكرتير الشخصي لجابوتنسكي، وعلى هذا الأساس نرى نتنياهو الحالي، يكرر كثيرًا أنه دائمًا ما يقرأ كتابات جابوتنسكي، بالإضافة إلى احتفاظه بسيفه حتى الآن. وها هو يقوم بتقريب الأطراف والأشخاص الأكثر عنفًا إلى دائرة القرار في تل أبيب، ما يُعد شكلًا من أشكال الانتقام من قادة حزب العمل الذين أهانوا معلمه (ومعلم والده) من ناحية، ولتلقينهم درسًا في سياستهم المتراخية مع العرب من وجهة نظره من ناحية أخرى.

ملاحظات المترجم فيما يتعلّق بالترجمة نفسها

أولًا: بعد أن أنهيت الترجمة، أرسل إليّ صديق مقالًا جميلًا، لباحث معروف وحصيف اسمه نبيه بشير، منشورًا في مجلة "قضايا إسرائيلية" التي يصدرها المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية – مدار، والمقالة بعنوان "قراءة جديدة لنظرية الجدار الحديدي". 

ثانيًا: بما أني كنت أعرف بعض النقاط عن المقالة قبل أن أقرأها، وكنت أعرف بشكل مسبق أن جابوتنسكي يعترف بأن الصهيونية حركة استعمارية، لذا رحت أراقب الكلمات الدّالة على الاستعمار في النص. وفي النهاية خلال عملية الطباعة أبرزتُها بخط كبير وغامق وواضح بشكل يمكن تمييزه من نظرة خاطفة. 

ثالثًا: وردت في النص بعض المفردات التي قد تكون غير مألوفة لدى القارئ، فأحلت شروحاتها إلى الهامش. 

 الجدار الحديدي

(مقالة منشورة باللغة الروسية في مجلة "رازسفيت" بتاريخ 4 تشرين ثانٍ/نوفمبر 1923)

من القواعد الممتازة عند كتابة أي مقالة البدء بأهم نقطة فيها. لكن هذه المرة، أجد من الضروري البدء بمقدمة، بل بمقدمة شخصية جدًّا.

من المعروف عني أنني عدوٌ للعرب، وأريد طردهم من فلسطين، وأريد أشياء أخرى من هذا القبيل. لكن هذا غير صحيح.

عاطفيًّا، لا يختلف موقفي تجاه العرب عن موقفي تجاه جميع الأمم الأخرى، فموقفي منهم هو اللامبالاة اللطيفة أو المهذبة. أما سياسيًّا، فيتحدد موقفي بمبدأين، الأول: أني أرى أنه من المستحيل طرد العرب من فلسطين كليًّا، وستبقى أمتان تعيشان في فلسطين بشكل دائم، وهو أمر مقبول وكافٍ بالنسبة لي، شريطة أن يصبح اليهود هم الأغلبية. والثاني: أنني أنتمي إلى المجموعة التي قررت برنامج هلسنكي (1)، وهو برنامج الحقوق الوطنية لجميع القوميات التي تعيش في دولة واحدة. وعندما وضعنا هذا البرنامج، لم نكن نقصد اليهود فحسب، بل جميع الأمم في كل مكان، وأساسه المساواة في جميع الحقوق.

أنا مستعد أن أقسم يمينًا أُلزم فيه أنفسنا، وذريتنا من بعدنا، بأننا لن نفعل أي شيء يتعارض مع مبدأ المساواة في الحقوق، ولن نحاول أبدًا طرد أي شخص. ويبدو لي أن هذه هي العقيدة الصحيحة إلى حد كبير.

لكن هناك مسألة أخرى، هل من الممكن دائمًا تحقيق الأهداف السلمية بالوسائل السلمية؟ لا تتوقف الإجابة على هذا السؤال على موقفنا نحن من العرب، بل تعتمد كليًّا على موقف العرب منّا ومن الصهيونية بشكل عام.

والآن، بعد هذه المقدمة، يمكننا أن ننتقل إلى جوهر الموضوع.

الاتفاق الطوعي غير ممكن

لا يمكن أن يكون هناك اتفاق طوعي بيننا وبين عرب فلسطين. لا الآن، ولا في المستقبل المنظور. أقول هذا بقناعة راسخة، لا رغبةً في جرح مشاعر الصهاينة المعتدلين، حيث لا أعتقد أنني أؤذي مشاعرهم بموقفي هذا، باستثناء أولئك الذين وُلدوا عميانًا، لأنهم يعرفون منذ زمن بعيد استحالة الحصول على موافقة عرب فلسطين الطوعية على تحويل "فلسطين" من بلد عربي إلى بلد ذي أغلبية يهودية.

ولدى قرّائي فكرة جيّدة عن تاريخ الاستعمار في البلدان الأخرى. لذلك أقترح عليهم أن يعيدوا النظر في جميع السوابق التي يعرفونها، وأن يروا إن كانت هناك حالة واحدة فقط من الاستعمار قد حصلت بموافقة السكان الأصليين. ولن يجدوا أي حالة سابقة من هذا القبيل.

فالسكان الأصليون في أي بلد سوف يقاومون الاستعمار بشكل عنيد، بغض النظر عمّا إذا كانوا متحضرين أم متوحشين.

ولم يكن هناك فرقٌ على الإطلاق إن تصرف المستعمرون بأدب أم لم يفعلوا ذلك. فقد كان رفاق كورتيز وبيزارو (2)، أو حتى أجدادنا تحت قيادة يوشع بن نون، كما يقول البعض، يتصرفون مثل قطّاع الطرق. وأيضاً الرواد الأوائل إلى قارّة أمريكا الشمالية، على الرغم من كونهم أناسًا على أعلى درجات الأخلاق، ولم يكن في نيّتهم إيذاء أحد، ولا سيما الهنود الحمر، وكانوا يؤمنون إيمانًا راسخًا بوجود مساحة كافية في البراري لكل من البيض والحمر. وفي جميع الحالات، حارب السكان الأصليون بالشراسة نفسها سواء ضد المستعمرين الأخيار أم المستعمرين الأشرار.

فجميع السكان الأصليين، سواء كانوا متحضرين أم لا، يعتبرون أراضيهم بمثابة ترابهم الوطني، وهم سادته الوحيدون، ويرغبون في الحفاظ على هذه السيادة دائمًا، وسيرفضون مشاركة أي وافدين جُدد، بغض النظر عما إذا كانوا أسيادًا أم شركاء أم متعاونين.

العرب ليسوا حمقى

يحاول دعاة السلام لدينا إقناعنا بأن العرب إما حمقى، يُمكننا خداعهم بإخفاء أهدافنا الحقيقية، أو أنهم فاسدون يُمكن رشوتهم للتخلي عن حقهم في فلسطين مقابل بعض المزايا الثقافية والاقتصادية. وأنا أرفض هذا المفهوم عن العرب الفلسطينيين. صحيح أنهم متأخرون ثقافيًّا عنا بخمسمئة عام، وليس لديهم صبرنا ولا عزيمتنا؛ لكنهم علماء نفس بارعون مثلنا، وقد شُحذت عقولهم مثل عقولنا على مدى قرون طويلة، وهم قادرون على تمييز الشعارات البرّاقة. قد نخبرهم عن براءة أهدافنا بالطريقة التي نريدها، بلغة مُخففة وبعد تحليتها بكلمات معسولة لجعلها مقبولة لديهم، لكنهم يعرفون ما نريد، كما نعرف ما الذي لا يريدونه.

 إنهم يشعرون بنفس حب فلسطين بشكل غريزي وغيور، كما شعر شعب الأزتيك (3) القدماء بالمكسيك القديمة، وقبائل السيوكس (4) تجاه براريهم الواسعة.

إن الذين يحبّون العرب منّا يتخيّلون أنهم سوف يوافقون طواعيةً على تحقيق أهدافنا الصهيونية مقابل التسهيلات المعنوية والمادية التي سوف يجلبها المستعمرون اليهود معهم. وهذا تصوّر طفولي، ينطوي في جوهره على نوع من الاحتقار للعرب. ويراهم رعاعًا فاسدين يمكن شراؤهم وبيعهم، مستعدين للتخلي عن وطنهم مقابل شبكة سكك حديدية جيدة.

جميع السكان الأصليين يقاومون المستعمرين

أعتقد أنه لا يوجد مبرر لهذه القناعة، لأنه قد يوجد بعض العرب الذين يقبلون بتقاضي الرشاوى. لكن هذا لا يعني أن كل الشعب العربي في فلسطين سيبيع وطنيته المتجذرة والتي يحرصون عليها بشدة، فعلة من المستحيل أن يفعلها أي شعب حتى سكان بابوا (5). وكل شعب أصلي في العالم سوف يقاوم المستعمرين ما دام لديه أدنى أمل في التخلص من خطر الاستعمار.

هذا ما سوف يفعله العرب في فلسطين، وما سوف يستمرون فيه ما دام هناك بريق أمل لديهم، مهما كان ضعيفًا، يجعلهم قادرين على منع تحول "فلسطين" إلى "أرض إسرائيل".

من أجل فهم العرب

تشكلت قناعة لدى البعض منا أن المشكلة كلها سببها سوء الفهم. واقتنعوا أن العرب لم يفهمونا، وأن هذا هو السبب الوحيد لمقاومتهم لنا، فإذا استطعنا أن نوضح لهم مدى اعتدال نوايانا، فسوف يمدون إلينا يد الصداقة فورًا. 

وهذا الاعتقاد عارٍ تمامًا عن الصحة، وقد أُثبِت خطؤه مرارًا وتكرارًا. وسأذكر مثالًا واحدًا فقط من أمثلة كثيرة. قبل بضع سنوات، عندما كان المرحوم السيد سوكولوف (6) في إحدى زياراته الدورية إلى فلسطين، ألقى كلمة في اجتماع حول مسألة "سوء الفهم" هذه تحديدًا. وقد أوضحتُ في مداخلتي بوضوح وعن قناعة أن العرب مخطئون تمامًا إذا ظنوا أننا نرغب في حرمانهم من ممتلكاتهم أو طردهم من البلاد، أو أننا نريد قمعهم. فنحن لا نطالب حتى بحكومة يهودية تتولى مهمة الانتداب الذي قررته عصبة الأمم.

ردّت عليّ إحدى الصحف العربية آنذاك، وكان اسمها "الكرمل"، في مقال افتتاحي مضمونه:

 "يُثير الصهاينة ضجةً لا أساس لها. ولا يوجد سوء فهم. ونعلم أن كل ما يقوله السيد سوكولوف عن النوايا الصهيونية صحيح، العرب يعرفون ذلك دون علمه. وبالطبع، لا يفكر الصهاينة الآن في طرد العرب من البلاد أو قمعهم، ولا يفكرون في حكومة يهودية. حيث من البديهي أن يهتموا الآن بأمر واحد فقط، هو ألا يعيق العرب هجرتهم. ويؤكد لنا الصهاينة أن الهجرة نفسها سيتم تنظيمها بدقة وفقًا للاحتياجات الاقتصادية لفلسطين. لم يشكّ العرب قط في ذلك لأنها حقيقة بديية، وإلا لما كانت هناك هجرة من الأساس".

ليس الأمرُ "سوء فهم"

كان يجب على المحرر في هذه المجلة العربية أن يكون أكثر استعدادًا للموافقة على أن فلسطين تتمتع بطاقة استيعابية هائلة، أي أن هناك مساحة كافية لاستيعاب عدد كبير من اليهود دون تشريد عربي واحد. وهناك شيء واحد فقط يريده الصهاينة، وهو الشيء الوحيد الذي لا يريده العرب، إنه الهجرة اليهودية، حيث إن هذه هي الطريقة الوحيدة التي سيصبح بها اليهود أغلبية بشكل تدريجي، وبعدئذ ستتبعها حكومة يهودية تلقائيًّا، وسيعتمد مستقبل الأقلية العربية على حسن نية اليهود. واليهود الآن أقلية، وهذا الأمر ليس جيدًا، ولن نملّ أو نكلّ من الإشارة إليه دائمًا. لذا لا يوجد هناك "سوء فهم".

هذا النص الذي كتبه المحرر في المجلة العربية منطقي للغاية، وواضح للغاية، ولا يقبل الجدل، لدرجة أن على الجميع حفظه عن ظهر قلب، ويجب أن يكون أساسًا لجميع مناقشاتنا المستقبلية حول القضية العربية. ولا يهم إطلاقًا أيّ العبارات سنستخدمها لشرح أهدافنا الاستعمارية، أهي عبارات هرتزل أم عبارات السير هربرت صموئيل؟

كل استعمار له تفسيره الخاص، وهو…



تصدير المحتوى ك PDF

إضافة محتوى